¡@
تتمة تفسير الرازي لهذه الاية -3- الحجة
الخامسة
عشرة: أنه
ثبت في
العلوم
العقلية أن
المكان: إما
السطح
الباطن من
الجسم
الحاوي وإما
البعد
المجرد
والفضاء
الممتد،
وليس يعقل في
المكان قسم
ثالث. إذا
عرفت هذا
فنقول: إن
كان المكان
هو الأول
فنقول: ثبت
أن أجسام
العالم
متناهية،
فخارج
العالم
الجسماني لا
خلاء ولا
ملاء ولا
مكان ولا جهة، فيمتنع أن
يحصل الإله
في مكان خارج
العالم، وإن
كان المكان
هو الثاني،
فنقول طبيعة
البعد طبيعة
واحدة
متشابهة في
تمام
الماهية،
فلو حصل
الإله في حيز
لكان ممكن
الحصول في
سائر
الأحياز،
وحينئذ يصح
عليه الحركة
والسكون وكل
ما كان كذلك
كان محدثاً
بالدلائل
المشهورة
المذكورة في
علم الأصول،
وهي مقبولة
عند جمهور
المتكلمين،
فيلزم كون
الإله
محدثاً، وهو
محال. فثبت
أن القول
بأنه تعالى
حاصل في
الحيز
والجهة قول
باطل على كل
الاعتبارات. الحجة
السادسة
عشرة: وهي
حجة استقرائية
اعتبارية
لطيفة جداً،
وهي أنا
رأينا أن
الشيء كلما
كان حصول
معنى
الجسمية فيه
أقوى وأثبت،
كانت القوة
الفاعلية
فيه أضعف
وأنقص،
وكلما كان
حصول معنى
الجسمية فيه
أقل وأضعف،
كان حصول
القوة
الفاعلية
أقوى وأكمل،
وتقريره أن
نقول وجدنا
الأرض أكثف
الأجسام
وأقواها
حجمية، فلا
جرم لم يحصل
فيها إلا
خاصة قبول
الأثر فقط،
فأما أن يكون
للأرض
الخالصة
تأثير في
غيره فقليل
جداً. وأما
الماء فهو
أقل كثافة
وحجمية من
الأرض، فلا
جرم حصلت فيه
قوة مؤثرة،
فإن الماء
الجاري
بطبعه إذا
اختلط
بالأرض أثر
فيها
أنواعاً من
التأثيرات.
وأما
الهواء،
فإنه أقل
حجمية
وكثافة من
الماء، فلا
جرم كان أقوى
على التأثير
من الماء،
فلذلك قال
بعضهم أن
الحياة لا
تكمل إلا
بالنفس،
وزعموا أنه
لا معنى
للروح إلا
الهواء
المستنشق.
وأما النار،
فإنها أقل
كثافة من
الهواء، فلا
جرم كانت
أقوى
الأجسام
العنصرية
على التأثير
فبقوة
الحرارة
يحصل الطبخ
والنضج،
وتكون
المواليد
الثلاثة
أعني
المعادن
والنبات
والحيوان. فهذه
جملة الوجوه
العقلية في
بيان كونه
تعالى
منزهاً عن
الاختصاص
بالحيز
والجهة. أما
الدلائل
السمعية
فكثيرة: أولها:
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ} وثانيها:
أنه تعالى
قال: {وَيَحْمِلُ
عَرْشَ
رَبّكَ
فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثماَنِيَةٌ} وثالثها: أنه تعالى
قال:{وَاللَّهُ الْغَنِىُّ} وخامسها: أنه
تعالى قال في
هذه الآية: {إِنَّ
رَبَّكُمُ
اللَّهُ
الَّذِى
خَلَقَ
السَّمَـوَاتِ
وَالاْرْضَ
فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ
ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ } وكلمة «ثم» للتراخي
وهذا يدل على
أنه تعالى
إنما استوى
على العرش
بعد تخليق
السموات
والأرض، فإن
كان المراد
من الاستواء
الاستقرار،
لزم أن يقال:
إنه ما كان
مستقراً على
العرش، بل
كان معوجاً
مضطرباً، ثم
استوى عليه
بعد ذلك،
وذلك يوجب
وصفه بصفات
سائر
الأجسام من
الاضطراب
والحركة
تارة،
والسكون
أخرى، وذلك
لا يقوله
عاقل. وسادسها: هو
أنه تعالى
حكى عن
إبراهيم
عليه السلام
أنه إنما طعن
في إلهية
الكوكب
والقمر
والشمس
بكونها آفلة
غاربة فلو
كان إله
العالم
جسماً، لكان
أبداً
غارباً
آفلاً. وكان
منتقلاً من
الاضطراب
والاعوجاج
إلى
الاستواء
والسكون
والاستقرار،
فكل ما جعله
إبراهيم
عليه السلام
طعناً في
إلهية الشمس
والكوكب
والقمر يكون
حاصلاً في
إله العالم،
فكيف يمكن
الاعتراف
بإلهيته. وثامنها: أن
السماء
عبارة عن كل
ما ارتفع
وسما وعلا،
والدليل
عليه أنه
تعالى سمى
السحاب سماء
حيث قال: {وَيُنَزّلُ
عَلَيْكُم
مّن
السَّمَاء
مَاء
لّيُطَهّرَكُمْ
بِهِ} (الأنفال: 11)
وإذا كان
الأمر كذلك،
فكل ماله
ارتفاع وعلو
وسمو كان
سماء، فلو
كان إله
العالم
موجوداً فوق
العرش، لكان
ذات الإله
تعالى سماء
لساكني
العرش. فثبت
أنه تعالى لو
كان فوق
العرش لكان
سماء والله
تعالى حكم
بكونه
خالقاً لكل
السموات في
آيات كثيرة
منها هذه
الآية وهو
قوله: {إِنَّ
رَبَّكُمُ
اللَّهُ
الَّذِى
خَلَقَ
السَّمَـوَاتِ
وَالأَرْضَ } فلو
كان فوق
العرش سماء
لسكان أهل
العرش لكان
خالقاً
لنفسه وذلك
محال. وإذا
ثبت هذا
فنقول: قوله: {الَّذِى
خَلَقَ
السَّمَـوَاتِ
وَالأَرْضَ } آية محكمة
دالة على أن
قوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ } من
المتشابهات
التي يجب
تأويلها،
وهذه نكتة
لطيفة،
ونظير هذا
أنه تعالى
قال في أول
سورة
الأنعام: {وَهُوَ
اللَّهُ فِى
السَّمَـوَاتِ} (الأنعام: 3) ثم
قال بعده
بقليل: {قُل
لِّمَن مَّا
فِى
السَّمَـوَاتِ
وَالاْرْضَ
قُل لِلَّهِ} (الأنعام: 12)
فدلت هذه
الآية
المتأخرة
على أن كل ما
في السموات ،
فهو ملك لله
فلو كان الله
في السموات
لزم كونه
ملكاً
لنفسه، وذلك
محال فكذا
ههنا، فثبت بمجموع
هذه الدلائل
العقلية
والنقلية
أنه لا يمكن
حمل قوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ }
على الجلوس
والاستقرار
وشغل المكان
والحيز،
وعند هذا حصل
للعلماء
الراسخين
مذهبان:
الأول: أن
نقطع بكونه
تعالى
متعالياً عن
المكان
والجهة ولا
نخوض في
تأويل الآية
على التفصيل
بل نفوض
علمها إلى
الله، وهو
الذي قررناه
في تفسير
قوله: {وَمَا
يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ
إِلاَّ
اللَّهُ
وَالرسِخُونَ
فِي
الْعِلْمِ
يَقُولُونَ
ءامَنَّا
بِهِ} (آل عمران: 7)
وهذا المذهب
هو الذي
نختاره
ونقول به
ونعتمد عليه. والقول
الثاني: أن نخوض في
تأويله على
التفصيل، وفيه
قولان
ملخصان: الأول: ما
ذكره القفال
رحمة الله
عليه فقال: {الْعَرْشِ } في
كلامهم هو
السرير الذي
يجلس عليه
الملوك، ثم
جعل العرش
كناية عن نفس
الملك،
يقال: ثل
عرشه أي
انتفض ملكه
وفسد. وإذا
استقام له
ملكه واطرد
أمره وحكمه
قالوا: استوى
على عرشه،
واستقر على
سرير ملكه،
هذا ما قاله
القفال. وأقول:
إن الذي قاله
حق وصدق
وصواب،
ونظيره
قولهم للرجل
الطويل: فلان
طويل النجاد
وللرجل الذي
يكثر
الضيافة
كثير
الرماد،
وللرجل
الشيخ فلان
اشتعل رأسه
شيباً، وليس
المراد في
شيء من هذه
الألفاظ
إجراؤها على
ظواهرها،
إنما المراد
منها تعريف
المقصود على
سبيل
الكناية
فكذا ههنا
يذكر
الاستواء
على العرش،
والمراد
نفاذ القدرة
وجريان
المشيئة، ثم قال
القفال رحمه
الله تعالى:
والله تعالى
لما دل على
ذاته وعلى
صفاته
وكيفية
تدبيره
العالم على
الوجه الذي
ألفوه من
ملوكهم
ورؤسائهم
استقر في
قلوبهم عظمة
الله وكمال
جلاله، إلا
أن كل ذلك
مشروط بنفي
التشبيه،
فإذا قال:
إنه عالم
فهموا منه
أنه لا يخفى
عليه تعالى
شيء، ثم
علموا
بعقولهم أنه
لم يحصل ذلك
العلم بفكرة
ولا روية ولا
باستعمال
حاسة، وإذا
قال: قادر
علموا منه
أنه متمكن من
إيجاد
الكائنات،
وتكوين
الممكنات،
ثم علموا
بعقولهم أنه
غني في ذلك
الإيجاد،
والتكوين عن
الآلات
والأدوات،
وسبق المادة
والمدة
والفكرة
والروية،
وهكذا القول
في كل صفاته،
وإذا أخبر أن
له بيتاً يجب
على عباده
حجة فهموا
منه أنه نصب
لهم موضعاً
يقصدونه
لمسألة ربهم
وطلب
حوائجهم كما
يقصدون بيوت
الملوك
والرؤساء
لهذا
المطلوب، ثم
علموا
بعقولهم نفي
التشبيه،
وأنه لم يجعل
ذلك البيت
مسكناً
لنفسه، ولم
ينتفع به في
دفع الحر
والبرد
بعينه عن
نفسه، فإذا
أمرهم
بتحميده
وتمجيده
فهموا منه
أنه أمرهم
بنهاية
تعظيمه، ثم
علموا
بعقولهم أنه
لا يفرح بذلك
التحميد
والتعظيم
ولا يغتم
بتركه
والإعراض
عنه. إذا
عرفت هذه
المقدمة
فنقول: إنه
تعالى أخبر
أنه خلق
السموات
والأرض كما
أراد وشاء من
غير منازع
ولا مدافع،
ثم أخبر بعده
أنه استوى
على العرش،
أي حصل له
تدبير
المخلوقات
على ما شاء
وأراد، فكان
قوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ }
أي بعد أن
خلقها استوى
على عرش
الملك
والجلال. ثم
قال القفال:
والدليل على
أن هذا هو
المراد قوله
في سورة يونس: {إِنَّ
رَبَّكُمُ
اللَّهُ
الَّذِى
خَلَقَ
السَّمَـوَاتِ
وَالاْرْضَ
فِى سِتَّةِ
أَيَّامٍ
ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ
يُدَبّرُ
الاْمْرَ} (يونس: 3)
فقوله: {يُدَبّرُ
الاْمْرَ }
جرى مجرى
التفسير
لقوله: {اسْتَوَى
عَلَى
لْعَرْشِ }
وقال في هذه
الآية التي
نحن في
تفسيرها: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ
يُغْشِى
الليل
النهارَ
يطلبهُ
حثيثاً
والشمس
والقمر
والنجوم
مسخرات
بأمره ألا له
الخلق
والأمر} وهذا
يدل على أن
قوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ }
إشارة إلى ما
ذكرناه. فإن
قيل: فإذا
حملتم قوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ }
على أن
المراد:
استوى على
الملك، وجب
أن يقال:
الله لم يكن
مستوياً قبل
خلق السموات
والأرض. قلنا: إنه
تعالى إنما
كان قبل خلق
العوالم
قادراً على
تخليقها
وتكوينها
وما كان
مكوناً ولا
موجوداً لها
بأعيانها
بالفعل، لأن
إحياء زيد،
وإماتة
عمرو،
وإطعام هذا
وإرواء ذلك
لا يحصل إلا
عند هذه
الأحوال،
فإذا فسرنا
العرش
بالملك
والملك بهذه
الأحوال، صح
أن يقال: إنه
تعالى إنما
استوى على
ملكه بعد خلق
السموات
والأرض
بمعنى أنه
إنما ظهر
تصرفه في هذه
الأشياء
وتدبيره لها
بعد خلق
السموات
والأرض،
وهذا جواب حق
صحيح في هذا
الموضع. والوجه
الثاني: في الجواب
أن يقال:
استوى بمعنى
استولى،
وهذا الوجه
قد أطلنا في
شرحه في سورة
طه فلا نعيده
هنا. والوجه
الثالث: أن
نفسر العرش
بالملك
ونفسر استوى
بمعنى: علا
واستعلى على
الملك فيكون
المعنى: أنه
تعالى
استعلى على
الملك بمعنى
أن قدرته
نفذت في
ترتيب الملك
والملكوت. واعلم
أنه تعالى
ذكر قوله: {اسْتَوَى
عَلَى
الْعَرْشِ }
في سور سبع.
إحداها: ههنا.
وثانيها: في
يونس.
وثالثها: في
الرعد.
ورابعها: في
طه. وخامسها:
في الفرقان.
وسادسها: في
السجدة.
وسابعها: في
الحديد، وقد
ذكرنا في كل
موضع فوائد
كثيرة، فمن ضم تلك
الفوائد
بعضها إلى
بعض كثرت
وبلغت
مبلغاً
كثيراً
وافياً
بإزالة شبه
التشبيه عن
القلب
والخاطر. *
قال القفال
رحمه الله:
أنه سبحانه
لما أخبر
عباده
باستوائه
على العرش عن
استمرار
أصعب
المخلوقات
على وفق
مشيئته،
أراهم ذلك
عياناً فيما
يشاهدونه
منها ليضم
العيان إلى
الخبر،
وتزول الشبه
عن كل
الجهات،
فقال: {يغشي
الليل
النهار} لأنه
تعالى أخبر
في هذا
الكتاب
الكريم بما
في تعاقب
الليل
والنهار من
المنافع
العظيمة،
والفوائد
الجليلة،
فإن
بتعاقبهما
يتم أمر
الحياة،
وتكمل
المنفعة
والمصلحة.
*ربما
جاء بعض
الجهال
والحمقى
وقال إنك
أكثرت في
تفسير كتاب
الله من علم
الهيئة
والنجوم،
وذلك على
خلاف
المعتاد!
فيقال لهذا
المسكين: إنك
لو تأملت في
كتاب الله حق
التأمل
لعرفت فساد
ما ذكرته،
وتقريره من
وجوه: انتهى تفسير الرازي لهذه الاية |
P. 3
¡@
¡@
¡@