ثَبَتَ في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلى الله عليه وسلم وقالَت: "يَارَسُولَ
اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فاجْعَلَ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ
يَوْمًا نَأتي فيهِ إِلَيْكَ فَتُحَدِّثَنَا" فَقَال: "تَعَالَيْنَ
في يَوْمِ كَذَا وَكَذَا" فَجِئْنَ إِلَيْهِ فَوَعَظَهُنَّ فَقَالَ:
"يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فإِنِّي رَأيْتُكُنَّ أَكْثَرَ
أَهْلِ النَّارِ" فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لِمَاذَا يَا رسولَ اللهِ؟
فَقالَ: "لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ العَشيرَ"
ثُمَّ نَزَلَ بِلالٌ فَبَسَطَ رِدَاءهُ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ
تُلْقِي فَتْخَهَا وَحُلِيَّهَا صَدَقَةً.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: "وَفي
الْحَدِيثِ دَليلٌ عَلى أنَّ كَلامَ الأَجْنَبِيَّةِ مُبَاحٌ
سَمَاعُهُ وَأَنَّ صَوْتَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ".
وَفي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
مَرَّ بِبَعْضِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ جَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ
وَيَتَغَنَّيْنَ يَقُلْنَ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ * يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ
مِنْ جَارِ
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ:
"اللهُ
يَعْلَمُ إِنِّي لأُحِبُّكُنَّ".
وَقَدْ قَالَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ إِنَّ صَوْتَ
الْمَرْأَةِ لَيْسَ عَوْرَةً. وَقَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ صَوْتُ
الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ مُرَادُهُمْ الصُّوتُ الَّذي يَجُرُّ إِلى
الشَّرِّ إِلى الْحَرَامِ. وَقَدْ فَنَّدَ الْخَرْشِيُّ مِنَ
الْمَالِكِيَّةِ مَا نُسِبَ إِلى مَالِكٍ أنَّهُ قَالَ أَنُّهُ
قَالَ صَوْتُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ.
وَعِنْدَ التَّفْصِيلِ يُقَالُ مَنِ اسْتَمَعَ إِلى صَوْتِ
الْمَرْأَةِ لِلتَّلَذُّذِ لِلشَّهْوَةِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَهَذَا
يَدْخُلُ تَحْتَ حَدِيثِ: "وَالنَّفْسُ
تَزْني" وَقَدْ فَسَّرَ الرَّسُولُ زِنى النَّفْسِ فقالَ: "وَالنَّفْسُ
تَمَّنَّى وَتَشْتَهِي" أَيْ أنَّ الشَّخْصَ يُفَكِّرُ
أَنَّهُ يُضَاجِعُ أَجْنَبِيَّةً وَيَتَلَذَّذُ بِهَا، هَذَا زِنى
النَّفْسِ، زِنَى الْقَلْبِ. فَمَنِ اسْتَمَعَ إلى صَوْتِ
الْمَرْأَةِ الْحَسَنْ لا لأنَّهُ صَوْتٌ حَسَنٌ فَقَطْ بَلْ يَجِدُ
مَيْلاً إِلى التَّلَذُّذِ بِهَا فَعلى هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ،
كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِنِ اسْتَمَعَتْ لِصَوْتِ رَجُلٍ حَسَنِ
الصَّوْتِ عَلَى وَجْهِ التَّلَذُّذِ بِهِ تَمَنِّي تَقْبِيلِهِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا حَرَامٌ.
أمَّا الاسْتِمَاعُ لِصَوْتِ رَجُلٍ حَسَنِ الصَّوْتِ كَأَنْ كَانَ
يَقْرَأُ الْقُرْءانَ بِصَوْتٍ حَسَنٍ عَمَلاً بِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم: "زَيِّنُوا الْقُرْءَانَ
بِأَصْوَاتِكُم فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْءَانَ
حُسْنًا" رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهَذَا لا بَأسَ بِهِ، لَكِنْ
الاسْتِمَاعُ الَّذي فيهِ ثَوابٌ هُوَ أَنْ يَسْتَمِعَ
لِلْقِرَاءَةِ الصَّحِيحَةِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ
حَتَّى يَخْشَعَ وَقَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا، في
الْمَاضي كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَبْكُوا مِنْ خَشْيَةِ
اللهِ يَقُولونَ تَعالَوْا بِنَا نَذْهَبْ إِلى هَذَا الْفَتَى
المُطَّلِبِيِّ، يَعْنُونَ الشَّافِعِيَّ، فَيَذْهَبُونَ إِلى
الشَّافِعِيِّ فَيَقْرَأُ الشَّافِعِيُّ الْقُرْءانَ
فَيَتَسَاقَطُونَ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، هَذَا يَقَعُ هَكَذَا
وَهَذَا يَقَعُ هَكَذَا، جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ
الْخَاشِعِينَ.