الحمدُ للهِ الذي تَنَزَّهَ عَنِ الشَّبِيهِ
وَالنَّظِيرِ وَتَعالَى عَنِ الْمَثِيلِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ
﴿لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ أَحْمَدُهُ
عَلَى أَنْ ألْهَمَنا العَمَلَ بِالسُّنَّةِ وَالكِتَابِ، ورفعَ في
أَيَّامِنا أَسْبَابَ الشَّكِّ وَالارتِيَابِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا
إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةَ مَنْ
يَرْجُو بإِخْلاصِهِ حُسْنَ العُقْبَى وَالْمَصِير، وَيُنَزِّهُ
خالِقَهُ عَنِ التَّحَـيُّزِ في جِهَةٍ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا
محمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الذِي نَهَجَ سَبِيلَ النَّجاةِ
لِمَن سلَكَ سَبِيلَ مَرْضَاتِه، وَأَمَرَ بِالتَّفَكُّرِ فِي
ءَالاءِ اللهِ وَنَهَى عَنِ التَّفَكُّرِ في ذاتِه، صَلَّى اللهُ
عليهِ وعلَى ءالِهِ وأَصْحَابِهِ الذِينَ عَلا بِهِمْ مَنارُ
الإيمانِ وارْتَفَعَ، وَشَيَّدَ اللهُ بِهِمْ مِنْ قَواعِدِ
الدِّينِ الحنيفِ مَا شَرَعَ، وأخْمَدَ بِهِمْ كَلِمَةَ مَنْ حَادَ
عَنِ الحَقِّ وَمَالَ إلَى البِدَعِ. أمَّا بعدُ
:
ففي
صبيحةِ
العِيدِ المُبارَك
وَهُوَ يوْمُ النَّحرِ يَتَوَجَّهُ الحُجَّاجُ إلى
مِنى لرَمْيِ جَمْرَةِ العَقَبَةِ كما فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى
اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، وَلَنَا معاشِرَ المؤمِنِينَ في رَمْيِ
الجِمَارِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ فَفِيهِ يَتَذَكَّرُ الحَاجُّ كيفَ
ظَهَرَ الشّيطانُ لسيِدِنَا إبراهيمَ لِيُوَسْوِسَ له فرَماهُ
بالحَصَى إهانةً لَهُ ، فَنَحْنُ مَعَاشرَ المؤمنينَ أُمَّةَ
مُحمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُمِرْنَا بهذا الرَّمْيِ إحياءً
لِسُنَّةِ نبيِّ اللهِ إبراهيمَ وفي ذلِكَ رَمزٌ لمخالَفَةِ
الشّيْطانِ وإِهانَتِهِ.
إن عيدَ الأضحى يحمِلُ بينَ طيّاتِهِ كثيراً من
المعاني السامِيَةِ والأضاحي التي يذبحُهَا المُسْلِمونَ
تَقَرُّباً إلى اللهِ سُبْحَانَهُ في يومِ العيدِ تحمِلُ ذكرىً
عظيمةً، إنَّهُ يُذَكّرُنا بنبيِ اللهِ إبراهيمَ عِنْدَمَا أُمِرَ
بِذَبْحِ ابنِهِ إسماعيلَ، وكيفَ فُدِيَ بِذِبْحٍ عَظيمٍ، فكيْفَ
كانَ ذلِكَ وما هِيَ قصّةُ هذِهِ الحادِثَةِ:
إِنَّ نبيَّ اللهِ إبراهيمَ كانَ قَدْ ءاتاهُ
اللهُ الحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ وَجَعَلَهُ نبيًّا رسولاً فكانَ
عَارِفاً باللهِ يَعبُدُ اللهَ وَحْدَهُ ويَعْتَقِدُ أنّ اللهَ
خالِقُ كُلِّ شىءٍ وهُوَ الذي يَسْتَحِقُ العِبَادَةَ وَحْدَهُ مِن
غيْر شكٍ ولا ريْبٍ وعندَمَا دَعَا قَوْمَهُ إلى عبادَةِ اللهِ
وتركِ عِبادةِ الأوثانِ والأصْنامِ والكواكِبِ كَذّبَهُ قَوْمُهُ
بَعْدَ أن رأوْا مِنهُ المعجِزاتِ الدّالّةَ على صِدْقِهِ وأرادُوا
بِهِ كَيْداً فَنَجَّاهُ اللهُ من كَيْدِهِمْ وَهَاجَرَ يَدْعُو
إلى دينِ اللهِ الإسلامِ وعِبادَةِ اللهِ الملِكِ الدّيّانِ ثُم
طَلَبَ من رَبِّهِ أن يَرْزُقَهُ أولاداً صالحينَ فَرَزَقَهُ اللهُ
إسماعيلَ وإسحاقَ ولما كَبِرَ ابْنُهُ إسماعيلُ وتَرَعْرَعَ كما
يُحِبُّ سيّدُنَا إبراهيمُ وصارَ يُرافِقُ أباهُ ويمشي مَعَهُ رأى
إبراهيمُ عليهِ الصَّلاةُ والسّلامُ في المنامِ أنّهُ يَذْبَحُ
ابْنَهُ إسماعيلَ ورُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَمَا كانَ من
إبراهيمَ إلا أن عَزَمَ عَلَى تحقِيقِ هذِهِ الرُّؤيا كَمَا
أَمَرَهُ اللهُ تعالى، يقولُ أهلُ العلمِ بالسِيَرِ إِنّ إبراهيمَ
لمّا أرادَ ذَبْحَ وَلَدِهِ قالَ لَهُ: "انْطلِقْ فَنُقَرّب
قُرباناً إلى اللهِ عزَّ وجلَّ" فَأَخَذَ سِكّيناً وحَبْلاً ثُمّ
انطَلَقَ مَعَ ابْنِهِ حتّى إذا ذَهَبَا بَينَ الجبالِ قالَ لَهُ
إسماعيلُ: "يا أَبَتِ أينَ قُربانُكَ" فَقَالَ : "يا بُنيَّ إنّي
أرى في المنامِ أنّي أذْبَحُكَ" فَقَالَ لَهُ : "اشْدُدْ رِباطِي
حتَّى لا أَضطَرِبَ واكْفُفْ عني ثِيابَك حتّى لا يَنْتَضِحَ
عليْكَ من دَمِي فَتَراهُ أُمّي وأَسْرِعْ مرَّ السّكِينِ على
حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ لِلْمَوْتِ عَلَيَّ فإذا أتيتَ أُمّي
فاقْرَأْ عَلَيْها السّلام مِنّي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ إبراهيمُ
يُقَبّلُهُ ويبْكي ويَقُولُ: "نِعْمَ العونُ أنتَ يا بُنَيَّ على
أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ"، ثُمّ إنّهُ أَمَرَّ السّكينَ على حَلْقِهِ
فلمْ يحكَّ شيئاً وقيلَ انْقَلَبَتْ فقالَ لَهُ إسماعيلُ:"ما لَكَ؟
"قالَ:"انْقَلَبَتْ" قالَ لَهُ وَلَدُهُ :"اطْعَنْ بها
طَعْنًا"فلمّا طَعَنَ بها نَبَتْ ولم تَقْطَعْ شَيْئاً لأنّ اللهَ
ما شاءَ ذلِكَ ولأنّ كُلَّ شىءٍ في هذا العالمِ يَحْدُثُ بمشيئةِ
اللهِ فلا حَرَكَةَ ولا سُكُونَ إلا بمشيَئةِ اللهِ تَكُون،
وعَلِمَ اللهُ بِعلمِهِ الأزليِ مِنهُمَا الصّدْقَ في التّسْليمِ
فَنُودِيَ: "يا إبراهيمُ قدْ صَدّقْتَ الرُؤيا هذا فِدَاءُ
ابْنِكَ" فَنَظَرَ إبراهيمُ فإذا جِبْريلُ مَعَهُ كبشٌ أملح
عَظِيمٌ.
واعلَموا إخْوَةَ الإيمانِ والإسْلامِ أنّ الأُضْحِيَةَ سُنّةٌ عن
رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ فَقَدْ كانَ صلّى اللهُ عليهِ
وَسلّمَ يُضَحّي بِكِبشَيْنِ وقالَ:"ضَحُّوا وَطَيِّبُوا
أَنْفُسَكُم فإنّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَسْتَقْبِلُ بِذبيحَتِهِ
القِبلَةَ إِلاَّ كَانَ دَمُهَا وَفَرْثُها وصُوفُهَا حَسَنَاتٍ في
مِيزانِهِ يومَ القِيامَةِ" .
وَيُجزِئُ في الأُضْحِيةِ الجذعَةُ مِنَ الضّأنِ والثَّنِيَّةُ
مِنَ المَعِزِ والإبلِ والبَقَرِ. والجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ
(وَهُوَ الخَرُوفُ) ما استَكْمَلَ سَنَةً ،وأمّا الثَّنِيُ مِنَ
المعِزِ فهُوَ ما استكْمَلَ سَنَتَيْنِ سَوَاءً كانَ ذكَراً أو
أُنثى ويَدْخُلُ وقْتُ الأُضْحِيةِ إذا طَلعَتْ شَمْسُ يومِ العيدِ
يومِ النَّحْرِ ومضَى بعْدَ طُلُوعِهَا قَدْرُ رَكْعَتَينِ
وخُطْبَتَينِ، وَيَخرُجُ وقتُهَا بغروبِ شمسِ اليومِ الثّالِثِ من
أيّامِ التّشريقِ، ولا يُجزِئُ في الأضاحي العَوْراءُ البيِّنُ
عَوَرُهَا والمريضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا والعَرْجاءُ التي
تَعْجِزُ عنِ المشْيِ في المرْعى، وأفضَلُها أَحْسَنُهَا
وأسْمَنُهَا وأطْيَبُهَا، ويُسْتَحَبُّ أن يُوَجِّهَ الذّبيحَةَ
إلى القِبلَةِ وأنْ يُسَمّيَ اللهَ تَعَالى وَيُكَبّرَ ويقولَ:
اللهُمَّ تَقَبَّلْ مِنّي، وإذا ضَحّى المُسلِمُ يُستَحَبُّ إن
كانَ مُتَطَوّعاً أن يأكُلَ الثّلثَ ويهْدِيَ الثّلثَ وَيَتَصَدّقَ
بالثّلثِ، ولا يَجُوزُ بَيعُ شيءٍ من الأُضْحِيَةِ سَوَاءَ كَانَتْ
نَذْراً أو تَطَوّعاً، ولا يَجُوزُ جَعْلُ الجِلْدِ وغَيْرِهِ
أُجْرَةً للجزّارِ بلْ يَتَصَدّقُ بِهِ المُضَحِّي أو يَتَّخِذُ
منهُ ما يُنْتَفَعُ بِهِ، وإذا دَفَعَ الأُضْحِيَةَ كُلَّهَا
للفُقَرَاءِ كانَ جَائِزاً وأمّا أنْ يَأْكُلَهَا كُلَّهَا معْ
أهْلِهِ الذينَ يَلْزَمُهُ نَفَقَتَهُمْ فإنّهُ لا يجوزُ
..لا
يَقُولُ اللهُ تعالى في القُرءانِ
الكريمِ: ﴿إنّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمّةً واحِدَةً وَأَنَا ربُّكُمْ
فاعبُدُونْ﴾ سورةُ الأنبياء / 92.
إن أَفْرادَ الأُمّةِ الإسْلاميّةِ على اختلافِ
ألْسِنَتِهِمْ وَتَبَاعُدِ دِيارِهِمْ يُظَلّلُهُمْ كُلَّ عامٍ
عِيدانِ مُبَارَكانِ هُما عيدُ الفطرِ وعيدُ الأضْحى المُبَارَكِ.
أمّا عيدُ الفطْرِ فإنّهُ يأْتِي بَعْدَ شَهْرِ عِبادَةٍ وطَاعَةٍ،
شهرٍ جَعَلَهُ اللهُ خيْرَ الشُهُورِ وَجَعَلَ فيهِ لَيْلَةَ
القَدْرِ خَيْرَ اللَّيالِي أمّا عيدُ الأضْحى المُبارَكُ فإنّهُ
يأتِي بعْدَ يَوْمٍ جَعَلَهُ اللهُ أفْضَلَ أيّامِ السّنَةِ ألا
وهُوَ يومُ عَرَفَةَ، اليومُ الذي يَقِفُ فيهِ المُسْلِمُونَ في
عَرَفَة في مَشْهَدٍ بالِغِ التّأثِيرِ وَمَوقِفٍ تَهْتزُّ لهُ
المَشَاعِرُ والقُلُوبُ، وحجاجُ بيتِ اللهِ يُكَبرونَ في أرضِ
الحرمِ فيتَرَدَّدُ صدَى تكبيرِهم في الآفاقِ، اجتَمَعُوا هناكَ
وهم يؤدَّوُن
المناسِكَ ويُوثِقونَ بينهم عُرى الإِخاءِ ليكونوا كجِسمٍ واحدٍ
إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى، كل
هذا يحضُرُنا ونحنُ بأَمَسِّ الحاجةِ إلى أن نستَلْهِمَ بعضاً منَ
الدُّروسِ والمعانِي السامِيَةِ التي تضمَّنَتْها هذهِ الآيةُ
وهذهِ التكبيراتُ وهذا الجمعُ التائِبُ الخاشِعُ ونحنُ نعيشُ في
هذا الزمنِ الذي تعاني فيهِ أُمَّتُنا ما تعانِيهِ من الضَّعْفِ
والفُرقَةِ. وإنّنَا إذ نَسْتَقبِلُ العيدَ المُبَارَكَ نَسْألُ
اللهَ العليَ الكريمَ أنْ يُيَسِّرَ امورنا ويغفر ذنوبنا وينصرنا
والمسلمين على من ظلمنا وأَنْ يَجْمَعَنا عَلَى الخَيْرِ
وَالسَّدَادِ وكل مَا يُرْضِيه..ءامين. وَكُلَ عامٍ وأنْتُمْ وسائر
المسلمين بِخَيرٍ.