شرح حديث الجارية

 

الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و على ءاله و صحبه الطيبين الطاهرين أما بعد:

فقد ظهر أناس في قلبهم زيغ و مرض  تتبعوا الايات المتشابة  والاحاديث المتشابة  ابتغاء الفتنة  وتركوا النصوص الصارفة عن الظواهر التي لا تجوز في حق الله تعالى ، فاشتغلوا بنشرها ونصرتها وتـزيـينها وأيدوا باطلهم بالشبه والفرى حتى انطلى تزييفهم على بعض ضـعفاء العقول من العوام فأخرجوهم من الإسلام لأخذهم بالظاهر من الكتاب والسنة المطهرة فسموها بالصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ومن جملة تلك الاحاديث التي أخذوا بظاهرها حديث الجارية مريدين بذلك  اثبات  الجهة والحيز  لله تعالى سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا فرأيـنا أن رسالة نبين فيها ما قاله أهل السنة والجماعة في معنى حديث الجارية و إثبات أنه من الاحاديث المتشابة التي لا يجوز الاخذ بظاهره  فنقول وبالله التوفيق  : 

إنّ تمسك هؤلاء الناس - وهم  الوهابية- و تمسك سلفهم ابن تيمية وظله ابن القيم الجوزية بحديث الجارية لإثباتهم المكان لله تعالى كتمسك الغريق بالريشة؛ لأن الحديث إذا حكم بصحته فهو مؤول على  معنى أنه سؤال عن المكانة لا عن المكان ، وهو الموافق للآية المحكمة }ليس كمثله شئ{  .

ثم
إن حديث الجارية روي بعدة ألفاظ مختلفة  مما يدل انه روي بالمعنى ولم يروى بالنص دلالة منها:

1- ما رواه الإمام ابن حبان في صـحيحـه عن الشريد بن سويد الثقفي قال قلت يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال:  ادع بها فجاءت فقال:  من ربك؟ قالت:  الله ، قال:  من أنا ؟ قالت:  أنت رسول الله ، قال:  أعتقها فإنها مؤمنة.  
2- ورواه
أيضا بهذا اللفظ النسائي في الصغرى وفي الكـبرى

3- والإمام أحمد في مسنده

4- والطبراني والبيهقي

5- ورواه أيضا بهذا اللفظ ابـن خزيمة في كتابه الذي سماه كتاب التوحيد من طريق زياد بن الربيع عن بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن الشريد.

6- ومنها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه باب تحريم الكلام في الصلاة دون كتاب الإيمان من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابـن يسار عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال:  وكانت لي جارية ترعى غنما لي قِبَلَ أُحد والجوَّانية فاطَّلَعتُ ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني ءادمَ ءاسـفُ كما يأسفون لكني صككتـها صكَّـةً فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّمَ ذلك علي قُلتُ يا رسول الله أفلا أُعتقُها؟ قال: إئتني بها، فأتيته بها، فقال لها : أين الله؟ قالت في السماء، قال: من أنا؟ قالت أنت رسول الله ، قال: أعتقها فإنها مؤمنةٌ.
7- وجاء
من وجه ءاخر عند الإمام مالك في الموطأ: باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة بلفظ:  أين الله وبلفظ:  أتشهدين أن لا إله إلا الله بزيادة:  أتوقنين بالبعث بعد الموت دون لفظ:  فإنها مؤمنة من طريق ابن شهاب في الثانية.  
8- وفي
رواية لابن الجارود بلفظ:  أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ قالت:  نعم ، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم، قال:  اتوقنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت نعم ، قال:  اعتقها فإنها مؤمنة. وهي رواية صحيحة.

9- وفي رواية لأبى داود في سننه:  باب:  تشميت العاطس في الصلاة ، وباب:  في الرقبة المؤمنة ، من طريق يزيد بن هارون قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال:  يا رسول الله إن عليَّ رقبة مؤمنة، فقال لها: أين الله ؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها، فقال لها:  من أنا؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، يعني أنت رسول الله.  

وفي رواية لأحمد أنها أشارت إلى السماء بإصبعها السبابة .

10- وفي رواية لعبد الرزاق في مصنفه باب ما يجوز من الرقاب بلفظ: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء .  وبلفظ: أتشهدين أن لا إله إلا لله؟ قالت نعم.  

11- كذا
روى الدارمي في السنن بلفظ: أتشهدين من حديث الشريد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن على أمي رقبة وإن عندي جارية سوداء...الحديث.

وقد جاءت رواية:  أيـن الله التي رواها عطاء بن يسار بلفظ ءاخر من طريق سعيد بن زيد عن توبة العنبري عن عطاء بن يسار قال حدثني صاحب الجارية وهي بلفظ: فمد النبي يده إليها مستفهما من في السمـاء؟ قالت الله... الحديث. أي دون أن يقول لها لفظ أين الله الذي يتشبث به المتعصبون مـن وهابية وغيرهم تبعا لشيخهم ابن تيمية لإثباتهم الحيز والجهة لله.

12- وأوردها
الذهبي في كتاب العلو وذكر سندها المزي في تحفة الأشراف.

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعليقه على السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل عند ذكر حديث الجارية ما نصه:  وراوي هذا الحديث عن ابن الحكم هو عطاء بن يسار وقـد اختلفت ألفاظه فيه ففي لفظ له:  فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها وأشار إليها مستفهما مَن في السماء ... الحديث ، فتكون المحادثة بالإشارة على أن اللفظ يكون ضائعا مع الخرساء الصماء فيكون اللفظ الذي أشار إليه الناظم والمؤلف لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ومثل هذا الحديث يصح الأخذ به فيما يتعلق بالعمل دون الاعتقاد حيث اشتمل على تشميت العاطس في الصلاة ومنع النـبي صـلى الله عليه وسلم عن ذلك ولم يخرجه البخاري في صحيحه وأخرج في جزء خلق الأفعال ما يتعلق بتشميت العاطس من هذا الحديث مقتصرا عليه دون ما يتعلق بكون الله في السماء وبدون أي إشارة إلى أنه اختصر الحديث.اهـ

وقال الإمام النووي في شرحه على مسلم ما نصه: قوله صلى الله عليه وسلم: أين الله ؟ قالـت في السماء ، قال: من أنا قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان:ـ
أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شئ وتنـزيهه عن سمات المخلوقات.
والثاني: تأويله بما يليق به، فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحدة تـقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين.اهـ

وقال الحافظ أبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه:  وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله هذا السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يُظهر منها ما يدلُ على أنها ليست ممن يعبُدُ الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض، فأجابت بذلك وكأنها قالت إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض.  وأين ظرف يسأل به عن المكان كما أن متى ظرف يُسأل به عن الزمان وهو مبنيٌ لما تضمنه من حرف الاستفهام وحُرّك لالتقاء الساكنين وخُصَّ بالفتح تخفيفا وهو خبرُ المبتدأ الواقع بعده وهو لا يصحُّ إطلاقه على الله تعالى بالحقيقة إذ الله تعالى منـزه عن المكان كما هو منـزه عن الزمان بل هو خالق الزمان والمكان ولم يـزل موجودا ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان.  ولو كان قابلا للمكان لكان مُختصا به ويحتاج إلى مخصص ولكان فيه إما متحركا وإما ساكنا وهما أمران حادثان وما يتصف بالحوادث حادث على ما يُبسط القول فيه في علم الكلام ولَمَا صَدَقَ قوله تعالى: {ليس كمثله شئ} إذ كانت تماثله الكائنات في أحكامها والممكنات في إمكانها وإذا ثبت ذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أطلقه على الله بالتوسُّع والمجاز.

وقال أيضا: وقيل في تأويل هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألها بأين عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها باين كلَّ مَن نُسبت إليه الإلهية وهذا كما يقال: أين الثريا من الثرا ؟! والبصر من العمى؟! أي بعُدَ ما بينهما واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة على هذا يكون قولها في السماء أي في غاية العلو والرفعة وهذا كما يقال: فلان في السماء ومناط الثريا. وهذا كما قال:

وإن بني عَوفٍ كما قد علمتم ~~ مناطُ الثُريّا قد تعالت نُجومها
أقول هذا والله ورسوله أعلم؛ والتسليم أسلم.اهـ

انظر هنا أيضا :   شرح حديث الجارية

 

Arabic Index

 
首 頁
INDEX