تاريخ الإجابة :
09/05/2013
اطلعنا على الطلب
المقيد برقم 205 لسنة 2013م، والمتضمن: برجاء التكرم بإفادتنا
حول بيان الحكم الشرعي لقراءة القرآن على الموتى من أهل
القبور، وحكم تلقين الميت، مع ذكر السند؟
الـجـــواب :
أمانة الفتوى
جاء الأمر الشرعي
بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرر أن الأمر
المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فلا
يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك ابتداعًا في
الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فقراءة القرآن الكريم عند القبر على الموتى -قبل
الدفن وفي أثنائه وبعده- مشروعةٌ ابتداءً بعموم النصوص الدالة
على مشروعية قراءة القرآن الكريم، بالإضافة إلى أنه قد وردت
أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثـارٌ كثيرةٌ عن
السلف الصالح في خصوص ذلك ذكرها الإمـام أبـو بكر الخلَّال
الحنبلي [ت311هـ] في جزء "القراءة على القبور" من كتاب
"الجامع"، ومثلُه الإمام علي بن أحمد بن يوسف الهكاري [ت489هـ]
في كتابه "هدية الأحياء للأموات، وما يصل إليهم من النفع
والثواب على ممر الأوقات"، والحافظ سيف الدين عبد الغني بن
محمد بن القاسم بن تيمية الحراني الحنبلي [ت639هـ] في كتابه
"إهداء القُرَب إلى ساكني التُّرَب"، والإمام أبو العباس
القرطبي المالكي [ت671هـ] في كتابه "التذكرة في أحوال الموتى
وأمور الآخرة"، والحافظ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد
الواحد بن سرور المقدسي الحنبلي [ت676هـ] في جزءٍ سماه "الكلام
على وصول القراءة للميت"، والإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد
بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي قاضي قضاة الحنفية بالديار
المصرية [ت701هـ] في كتابه "نفحات النسمات، في وصول إهداء
الثواب للأموات"، والإمام محمد بن علي بن محمد بن عمر القطان
العسقلاني [ت813هـ] في رسالته "القول بالإحسان العميم، في
انتفاع الميت بالقرآن العظيم"، والحافظ السخاوي الشافعي
[ت902هـ] في كتابه "قُرَّة العَيْن، بالمسرة الحاصلة بالثواب
للميت والأبوين"، والحافظ السيوطي الشافعي [ت911هـ] في "شرح
الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، والحافظ السيد عبد الله بن
الصِّدِّيق الغماري [ت1413هـ] في كتابه "توضيح البيان لوصول
ثواب القرآن"، وغيرهم مِمَّن صَنَّف في هذه المسألة.
1- فمِن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك:
ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلَاجِ، عن أبيه قال:
قال لي أبي -اللَّجْلَاجُ أبو خالد–: يا بُنَيَّ! إذا أنا متُّ
فأَلْحِدْني، فإذا وضَعْتَني في لَحدي فقل: بسم الله، وعلى
مِلَّة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا –أي: ضَعْه
وضعًا سهلًا–، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني
سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ ذلك. أخرجه
الطبراني في المعجم الكبير، قال الهيثمي: ورجاله موثوقون.
وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما. كما
أخرجه الخلَّال في جزء "القراءة على القبور" والبيهقي في
"السنن الكبرى" وغيرهما، وحَسَّنه النووي، وابن حجر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: «إذا مات أحدُكم فلا تحبسوه، وأَسْرِعوا به
إلى قبره، وليُقْرَأْ عند رأسه بفاتحة الكتاب، وعند رجليه
بخاتمة سـورة البقرة في قبره» أخرجه الطبراني والبيهقي في شعب
الإيمان، وإسناده حسنٌ كما قال الحافظ في الفتح، وفي رواية
«بفاتحة البقرة» بدلًا من «فاتحة الكتاب».
وفي المسألة أحاديث أخرى، لكنها واهية الأسانيد:
منها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرَّم وجهه عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَن مَرَّ على المقابر، وقرأ
﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إحدى عشرة مرة، ثم وهب أَجره
للأموات، أُعْطِيَ مِن الأَجر بِعَدَدِ الأموات» خرَّجه
الخلَّال في "القراءة على القبور" والسمرقندي في "فضائل قل هو
الله أحد" والسِّلَفِي.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآلـه وسلم: «مَنْ دخل المقابر، ثم قرأ فاتحة الكتاب
و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ و﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، ثم
قال: اللهم إني قد جعلتُ ثوابَ ما قرأتُ من كلامِكَ لأهل
المقابر مِن المؤمنين والمؤمنات، كانوا شُفَعاء له إلى الله
تعالى» خرَّجه أبو القاسم الزنجاني في "فوائده".
ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال: «مَنْ دخل المقابر، فقرأ سورة يس، خفَّف الله عنهم،
وكان له بِعَدَدِ مَن فيها حسنات» خرَّجه عبد العزيز صاحب
الخلَّال.
قال الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزئه
الذي ألَّفه في هذه المسألة فيما نقله عنه الحافظ السيوطي في
"شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" (ص: 311، ط. دار المدني،
1372هـ-1952م): [وهي -أي: هذه الأحاديث- وإن كانت ضعيفة،
فمجموعها يدل على أن لذلك أصلًا، وأن المسلمين ما زالوا في كل
مصرٍ وعصرٍ يجتمعون ويقرؤون لموتاهم مِن غير نكير؛ فكان
إجماعًا] اهـ.
2- وجاءت السنة بقراءة سورة (يس) على الموتى، في حديث معقل بن
يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
«اقْرَءُوا (يس) عَلَى مَوْتَاكُمْ» رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
قال الإمام القرطبي في "التذكرة" (1/286-287، ط. مكتبة دار
المنهاج للنشر والتوزيع): [وهذا يحتمل أن تكون هذه القراءة عند
الميت في حال موته، ويحتمل أن تكون عند قبره] اهـ.
قال الحافظ السيوطي في "شرح الصدور" (ص: 312): [وبالأول قال
الجمهور كما تقدم في أول الكتاب، وبالثاني قال ابن عبد الواحد
المقدسي في الجزء الذي تقدمت الإشارة إليه، وبالتعميم في
الحالتين قال المحب الطبري مِن متأخِّري أصحابنا] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى"
(2/27، ط. المكتبة الإسلامية): [أخذ ابن الرفعة وغيره بظاهر
الخبر، وتَبِعَ هؤلاء الزركشيُّ فقال: لا يَبْعُدُ –على القول
باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه– أنه يُنْدَبُ قراءتها في
الموضعين] اهـ.
3- كما جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على المتوفى؛
وذلك لأن فيها مِن الخصوصية في نفع الميت وطلب الرحمة والمغفرة
له ما ليس في غيرها؛ كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمُّ القرآنِ
عِوَضٌ عن غيرها، وليس غيرُها عِوَضًا عنها» رواه الدارقطني
وصححه الحاكم، وبَوَّب لذلك الإمام البخاري في صحيحه بقوله
(باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ)،
وهذا أعَمُّ مِن أن يكون في صلاة الجنازة أو خارجها: فمِن
الأحاديث ما يدل على أنها تُقرأ في صلاة الجنازة، ومنها ما يدل
على أنها تُقرأ عند الدفن أو بعده كحديث ابن عمر السابق عند
الطبراني وغيره، ومنها ما يدل بإطلاقه على القراءة على المتوفى
في كل حال؛ كحـديث أم عفيف النهدية رضي الله عنها قالت:
«بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايع النساء؛
فأخذ عليهن أن لا تُحَدِّثْنَ الرَّجُل إلا مَحْرَمًا،
وأَمَرَنَا أن نقرأ على مَيِّتِنا بفاتحةِ الكتاب» رواه
الطبراني في المعجم الكبير، وحديث أم شريك رضي الله عنها قالت:
«أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ
نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» رواه ابن
ماجه.
4- واستدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا بحديث ابن
عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا
يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى؛ أَمَّا
أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا
أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ:
ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ
غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ:
«لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» متفقٌ
عليه.
قال الإمام الخطَّابي فيما أورده عنه الحافظ العيني في "عمدة
القاري" (3/118، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه دليل على
استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنه إذا كان يُرْجَى
عن الميت التخفيفُ بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أكبرُ
رجاءً وبركة] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "التذكرة" (1/275-279): [وقد استدل بعض
علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي
شقَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باثنين... قالوا:
ويُستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا
خُفِّفَ عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن"...
قال: "ولهذا استحب العلماء زيارة القبور؛ لأن القراءةَ
تُحْفَةُ الميت مِن زائره] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (3/202، ط. دار إحياء التراث
العربي): [واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث؛
لأنه إذا كان يُرجى التخفيفُ بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن
أولى، والله أعلم] اهـ.
5- وقد صلَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجنازة على
القبر غير مرة كما جاء في الصحيحين وغيرهما، والصلاة مشتملةٌ
على قراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والذكر والدعاء، وما جاز كله جاز بعضه.
كما أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت مِن جواز الحج
عنه ووصول ثوابه إليه؛ لأن الحج يشتمل على الصلاة، والصلاة
تقرأ فيها الفاتحة وغيرها، وما وصل كله وصل بعضه، وهذا المعنى
الأخير وإن نازع فيه بعضهم إلَّا أن أحدًا مِن العلماء لم
يختلف في أن القارئ إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب
قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله؛ لأن الكريم إذا سُئِل
أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.
6- وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيلٍ وخلفًا عن سلفٍ
مِن غير نكير، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة،
حتى نقل شيخ الحنابلة الإمام موفق الدين بن قدامة الإجماعَ على
ذلك في كتابه "المغني" (2/427، ط. هجر) فقال: [ولنا: ما
ذكرناه، وأنه إجماع المسلمين؛ فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون
ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير، ولأن
الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الميت
يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه»، والله أكرم من أن يوصل عقوبة
المعصية إليه ويحجب عنه المثوبة] اهـ، وكذلك نقل الحافظ شمس
الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الإجماع على ذلك –كما
سبق-، ونقله أيضًا الشيخ العثماني في كتابه "رحمة الأمة في
اختلاف الأئمة" (ص: 72، ط. المكتبة التوفيقية)، ونص عبارته في
ذلك: [وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج والعتق
تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة]
اهـ.
ومن الآثار في ذلك عن السلف الصالح:
ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" عن الإمام الشعبي رحمه
الله قال: "كانَتِ الأنصارُ يقرأون عند الميِّتِ بسورة
البقرة"، وأخرجه الخلَّال في "القراءة على القبور" بلفظ: "كانت
الأنصارُ إذا مات لهم مَيِّتٌ اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده
القرآن".
وأخرج الخلَّال عن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: "لا بَأْسَ
بقراءةِ القرآنِ في المقابِر".
وأخرج أيضًا عن الحسن بن الصَّبَّاح الزعفراني قال: سأَلْتُ
الشافعيَّ عن القراءة عند القبور، فقال: "لا بَأْسَ بِهَا".
وأخرج أيضًا عن عليِّ بن موسى الحداد قال: كنت مع أحمد بن حنبل
ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دُفِن الميِّتُ جلس
رجلٌ ضريرٌ يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا! إن القراءةَ
عند القبر بدعةٌ، فلما خرجنا مِن المقابر قال محمد بن قدامة
لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! ما تقول في مُبَشِّرٍ
الحَلَبِيّ؟ قال: ثقة، قال –يعني أحمد–: كتبتَ عنه شيئًا؟ قال:
نعم؛ أخبرني مُبَشِّرٌ عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن
أبيه: أنه أوصى إذا دُفِن أن يُقْرَأ عند رأسه بفاتحة البقرة
وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يوصي بذلك. فقال
له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ.
وأخرج أيضًا عن العباس بن محمد الدُّوري أنه سأل يحيى بن معين
عن القراءة على القبر، فحدَّثه بهذا الحديث.
وقد نص أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك:
– فجاء في "الفتاوى الهندية" على مذهب السادة الحنفية (1/166،
ط. دار الفكر): [ويُستحب إذا دُفِن الميت أن يجلسوا ساعة عند
القبر بعد الفراغ بقدر ما يُنحر جزورٌ ويقسم لحمها؛ يَتْلُونَ،
ويَدْعُون للميت] اهـ، وذكر أن ذلك قول الإمام محمد بن الحسن
رحمه الله، وأن مشايخ الحنفية أخذوا به.
– وأما السادة المالكية: فالمحققون منهم -وهو المعتمد عند
متأخِّريهم- على جواز ذلك وأن ثواب القراءة يصل إلى الميت، ففي
"حاشية العلامة الدسوقي على الشرح الكبير" (1/423، ط. دار
الفكر): [وفي آخر نوازل ابن رشد في السؤال عن قوله تعالى:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى﴾، قال: وإن قرأ
الرجل وأهدى ثواب قراءته للميت جاز ذلك وحصل للميت أجره. اهـ
وقال ابن هلال في نوازله: الذي أفتى به ابن رشد -وذهب إليه
غيرُ واحدٍ مِن أئمتنا الأندَلُسِيِّين- أن الميت ينتفع بقراءة
القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ
ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقًا وغربًا ووقفوا على ذلك
أوقافًا واستمر عليه الأمر منذ أزمنةٍ سالفة، ثم قال: ومن
اللطائف أن عز الدين بن عبد السلام الشافعي رُئِيَ في المنام
بعد موته فقيل له: ما تقول فيما كنتَ تُنكِر مِن وصول ما
يُهدَى مِن قراءة القرآن للموتى؟ فقال: هيهات وجدتُ الأمر على
خلاف ما كنت أظن ـ] اهـ.
وجاء في "النوازل الصغرى" لشيخ الجماعة سيدي المهدي الوزَّاني
المالكي: [وأما القراءة على القبر: فنص ابن رشد في "الأجوبة"،
وابن العربي في "أحكام القرآن" له، والقرطبي في "التذكرة" على
أنه ينتفع بالقراءة، أعني الميت، سواء قرأ في القبر أو قرأ في
البيت] اهـ، ونقله عن كثيرين من أئمة المالكية؛ كأبي سعيد بن
لُبٍّ، وابن حبيب، وابن الحاجب، واللخمي، وابن عرفة، وابن
المواق، وغيرهم.
– أما السادة الشافعية: فقد قال الإمام النووي في "المجموع"
(5/311، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: ويُستحب للزائر أن
يُسلِّم على المقابر، ويدعو لمن يزوره ولجميع أهل المقبرة،
والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما ثبت في الحديث،
ويُسْتَحَبُّ أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر ويدعو لهم عقبها،
نصَّ عليه الشافعيُّ، واتفق عليه الأصحاب] اهـ.
وقال في "الأذكار" (1/288، ط. دار ابن حزم): [ويُسْتَحَبُّ أن
يقعد عنده بعد الفراغ ساعةً قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها،
ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ،
وحكايات أهل الخير، وأحوال الصالحين. قال الشافعي والأصحاب:
يُستحب أن يقرؤوا عنده شيئًا من القرآن؛ قالوا: فإن ختموا
القرآن كله كان حسنًا] اهـ.
وقال في "رياض الصالحين" (1/295، ط. مؤسسة الرسالة): [قال
الشافعي رحمه الله: ويُستحب أن يُقرأ عنده شيءٌ مِن القرآن،
وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا] اهـ.
– وكذلك السادة الحنابلة؛ صرحوا بجواز ذلك.
قال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (2/557، ط. دار إحياء
التراث العربي): [قوله (ولا تُكره القراءة على القبر في أصح
الروايتين) وهذا المذهبُ، قاله في "الفروع"، ونصَّ عليه –يعني
الإمام أحمد–، قال الشارح: هذا المشهور عن أحمد، قال الخلَّال
وصاحبُه: المذهب روايةٌ واحدةٌ: لا تُكره، وعليه أكثر الأصحاب؛
منهم القاضي، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدَّمه في "الفروع"،
و"المغني"، و"الشرح"، وابن تميم، و"الفائق"، وغيرهم] اهـ.
والمتصفح لكتب السير والتراجم والتواريخ يرى عمل السلف على ذلك
وتتابع الأمة عليه مِن غير نكير، بما في ذلك السادة الحنابلة
وأصحاب الحديث، ويكفينا في ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في "سير
أعلام النبلاء" (18/547، ط. مؤسسة الرسالة) في ترجمة أبي جعفر
الهاشمي الحنبلي [ت470هـ] شيخ الحنابلة في عصره، قال: [ودفن
إلى جانب قبر الإمام أحمد، ولزم الناس قبره مدةً حتى قيل:
خُتِم على قبره عشرة آلاف ختمة] اهـ.
حتى إن الشيخ ابن تيمية –وهو الذي ادّعى أن قراءة القرآن على
القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف ومخالفًا
جدَّه الحافظ عبد الغني بن محمد بن الخضر بن تيمية [ت639هـ] في
كتابه "إهداء القُرَب إلى ساكني التُّرَب"– قد ذكر أهل السير
في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي
بيوتهم كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره، والتاريخ محنة
المذاهب كما يقولون.
وبِناءً على ذلك: فقراءة القرآن على الموتى مِن الأمور
المشروعة التي وردت بها الأدلة الصحيحة مِن الكتاب والسنة
وأطبق على فعلها السلف الصالح وجرى عليها عمل المسلمين عبر
القرون مِن غير نكير؛ سواء أكان ذلك حال الاحتضار، أو بعده، أو
عند صلاة الجنازة، أو بعدها، أو حال الدفن، أو بعده، ومَن
ادَّعى أنه بدعةٌ فهو إليها أقرب.
- أما تلقين الميت
فإنه من السنن المستحبات بعد الدفن، بل عدها جماعة مِن العلماء
من المسائل التي تميَّز بها أهل السنة والجماعة عن أهل الفرق
الأخرى كالمعتزلة وغيرهم، واستدل أهل العلم على مشروعية
التلقين بالكتاب والسنة وعمل السلف وإجماع المسلمين العملي من
غير نكير:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في "المسالك في شرح موطأ
مالك" (3/520، ط. دار الكتب العلمية): [وهو مستحَبٌّ، وهو فعل
أهل المدينة والصالحين والأخيار؛ لأنه مطابق لقوله تعالى:
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب شرح
روض الطالب" (1/329، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(وأن يلقن
الميت) لقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، وأحوج ما يكون العبد إلى
التذكير في هذه الحالة] اهـ، ونحوه للإمام الخطيب الشربيني في
"مغني المحتاج" (2/60، ط. دار الكتب العلمية).
ومن السنة:
- قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» أخرجه مسلم وغيره من حديثي أبي سعيد
الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.
قال الحافظ العيني في "شرح سنن أبي داود" (6/35، ط. مكتبة
الرشد): [واستدل الشافعي بظاهر الحديث على أن التلقين بعد
الدفن] اهـ.
وقال الإمام أبو إسحاق الصفّار البخاري الحنفي [ت534هـ] في
"تلخيص الأدلة لقواعد التوحيد": [وعند أهل السنة والجماعة هذا
الحديث محمول على حقيقته؛ لأنه الله تعالى يحييه، على ما جاءت
به الآثار] اهـ، نقلا عن "الإيضاح والتبيين لمسألة التلقين"
(ص: 177، ط. دار البشائر الإسلامية).
وقال الإمام جلال الدين الخبّازي الحنفي [ت691هـ] في "شرح
الهداية" مستدلًّا على مشروعية التلقين: [وقوله: «لَقِّنُوا
مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» دليلٌ عليه؛ لأن حقيقة
الميت: من مات، وأما قبل الموت: فمجاز، ومشروعيته -يعني:
حينئذ- بدليل منفصل. وقد حمل بعضهم قوله عليه السلام:
«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» على هذا، وهو
حقيقة؛ فإن حمله على المحتضر مجاز؛ إذ لم يمت بعدُ] اهـ، نقلا
عن "الإيضاح والتبيين لمسألة التلقين" (ص: 176).
واستدل القاضي أبو بكر بن العربي المالكي بهذا الحديث على
استحباب التلقين؛ كما في "المسالك في شرح موطأ مالك" (3/520).
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/329):
[قال بعضهم: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقِّنُوا
مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» دليلٌ عليه -أي: على
التلقين-؛ لأن حقيقة الميت: مَن مات، أما قبل الموت- أي: وهو
ما جرى عليه الأصحاب كما مر- فمجازٌ] اهـ.
- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: إذا أنا مِتُّ
فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن
نصنع بموتانا؛ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
«إذا مات أحدٌ من إخوانكم فسوَّيتُمُ التراب على قبْرِهِ
فَلْيَقُمْ أَحدُكُم على رأسِ قبْرِهِ ثم ليقل: يا فلان ابن
فلانة، فإنه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ، ثم يقول: يا فلان ابن
فلانة، فإنه يَسْتَوِي قاعدًا، ثم يقول: يا فلان ابن فلانة،
فإنه يقول: أَرشِدنا يرحمك الله، ولكن لا تشعرون، فَلْيَقُلْ:
اذكر ما خَرَجْتَ عليه من الدنيا؛ شهادةَ أن لا إله إلا الله
وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام
دينًا، وبمحمد نبيًّا، وبالقرآن إمامًا. فإنَّ مُنْكَرًا
وَنَكِيرًا يأخذ كل واحدٍ بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا؛ ما
يُقْعِدُنا عند من لُقِّنَ حُجَّتَهُ! ويكون الله تعالى
حُجَّتَهُ دُونَهُمَا» فقال رجل: يا رسول الله! فإن لم يعرف
أُمَّه؟ قال: «يَنْسُبُهُ إلى أُمِّهِ حَوَّاءَ: يا فلان ابن
حَوَّاءَ» رواه الطبراني في "الدعاء" و"المعجم الكبير" -ومن
طريقه الضياء المقدسي في "أحكامه"-، وإبراهيم الحربي في "اتباع
الأموات"، وأبو الحسن الخِلَعي في "الخِلَعيات"، وأبو الحسن
الهكَّاري في جزئه "هدية الأحياء للأموات"، وأبو عبد الله
الثقفي في "الأربعين"، والمستغفري في "الدعوات"، وأبو بكر غلام
الخلال في "الشافي"، وابن زبر الربعي في "وصايا العلماء عند
الموت".
وهذا الحديث صححه الحافظ أبو منصور عبد الله بن الوليد
الحنبلي؛ حيث ذكره في كتابه "جامع الدعاء الصحيح"، وأفرد له
الحافظ المنذري جزءًا في تقويته وتتبع شواهده، وقال الإمام أبو
البركات بن تيمية الحنبلي في "شرح الهداية" بعد أن ساق الحديث
من طُرُق: [في هذه الأسانيد مقال، وأصلحُها إسناد أبي بكر في
"الشافي".. وتعددُ الطرق مما يُغَلِّب على الظن صحةَ الحديث]
اهـ نقلا عن رسالة "الإيضاح والتبيين لمسألة التلقين" (ص: 170،
ط. دار البشائر) للحافظ السخاوي.
وقال الحافظ ابن الملقن في "البدر المنير" (5/334، ط. دار
الهجرة): [إسناده لا أعلم به بأسًا، وذكره الحافظ أبو منصور في
"جامع الدعاء الصحيح"] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "التلخيص الحبير" (2/311، ط.
دار الكتب العلمية): [إسناده صالح، وقد قوّاه الضياء في
"أحكامه"] اهـ.
وقال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 265، ط. دار
الكتاب العربي): [وقوّاه الضياء في أحكامه، ثم شيخنا –يعني:
الحافظ ابن حجر العسقلاني- مما له من الشواهد، وعزى الإمام
أحمد العمل به لأهل الشام، وابن العربي لأهل المدينة وغيرهما،
كقرطبة وغيرها، وأفردت للكلام عليه جزءًا] اهـ.
وقال الحافظ السخاوي أيضًا في "الإيضاح والتبيين بمسألة
التلقين" (ص: 185، ط. دار البشائر الإسلامية) بعد أن ساق
الشواهد على تقوية هذا الحديث وصحة العمل به: [فهذه أحد عشر
عاضدًا يعتضد بها حديثُ أبي أُمامة رضي الله عنه، وتُقوِّي
الاستدلال به على استحباب التلقين] اهـ.
وقد احتج جماهير علماء المسلمين بهذا الحديث على مشروعية
التلقين، ولا يقدح فيه تضعيفُ بعضهم لسنده؛ فإن تضعيف السند
المعين لا يستلزم ضعف المتن، ولا يقتضي -فضلًا عن ذلك- إنكارَ
هذه السُّنّة بحال؛ فقد جرى عليها عمل السلف الصالح، وفقهاء
المذاهب المتبوعة، وإجماع المسلمين العملي سلفًا وخلفًا من غير
نكير:
فروى سعيد بن منصور في "سننه" عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب
وحكيم بن عمير -وهم من قدماء التابعين من أهل حمص- قالوا: "إذا
سُوِّيَ على الميت قبرُه وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون أن
يقال للميت عند قبره: يا فلان قل لا إله إلا الله اشهَدْ أن لا
إله إلا الله، ثلاث مرات، يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام
ونبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ينصرف".
قال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" (4/110، ط. دار
الحديث): [والثلاثةُ كلهم مِن قُدماء التابعين حِمصيُّون..
وظاهرُه: أن المُستحِبَّ لذلك الصحابةُ الذين أدركوهم] اهـ.
وروى ابن أبي الدنيا في "المنامات"، وبحشل في "تاريخ واسط"
-وذكره الحافظ عبد الحق الإشبيلي في كتاب "العاقبة في ذكر
الموت" (ص: 183، ط. مكتبة دار الأقصى)، وابن القيم الحنبلي في
كتاب "الروح" (ص: 13-14، ط. دار الكتب العلمية)، وشمس الدين
الجزري في "الزهر الفائح في ذكر من تنزه عن الذنوب والقبائح"
(ص: 53، ط. دار الكتب العلمية)- عن شَبِيبِ بن شَيْبةَ قال:
"لمّا حضرَتْ أمي الوفاةُ دعَتْني فقالت: يا بُنيَّ إذا دفنتني
فقم عند قبري فقل: يا أم شيبة قولي: لا إله إلّا الله", فلما
دفنتُها اكتنفَت القبرَ النساءُ, وكانت امرأةٌ قد حضرَتْ
وصيتَها معهنّ، فقالت للنساء: تَنَحَّيْنَ؛ فإن أمه قد أوصَتْه
بوصية, فجئتُ حتى قمت عند قبرها فقلت: يا أم شيبة قولي: لا إله
إلا الله, فلما كان من الليل أتتني في المنام فقالت: يا بنيَّ
لقد حفظت وصيتي, فلولا أن تداركتني لقد كدت أهلك".
وتواردت نصوص أهل العلم من أرباب المذاهب المتبوعة في النص على
مشروعية التلقين، وأنه سنة جرى عليها عمل المسلمين من غير
نكير:
فعند الحنفية:
قال الإمام أبو إسحاق الصفّار الحنفي [ت534هـ] في "تلخيص
الأدلة لقواعد التوحيد": [قول المعتزلة: التلقين لا يكون بعد
الموت؛ لأن الإحياء بعد الموت عندهم مستحيل، ويؤولون التلقين
الذي في الحديث على التلقين عند الموت، وعند أهل السنة
والجماعة هذا الحديث محمول على حقيقته؛ لأنه الله تعالى يحييه،
على ما جاءت به الآثار، وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: أنه أمر بتلقين الميت بعد دفنه؛ فيقول: يا فلان بن
فلانة! اذكر دينك الذي كنت عليه، وقد رضيت بالله ربًّا،
وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، فقيل: يا رسول الله! لو لم
نعرف اسم أمه؟ فقال: «تنسبه إلى حواء»] اهـ، نقلا عن "الإيضاح
والتبيين لمسألة التلقين" (ص: 177).
وصحَّح مشروعيةَ التلقين الإمامُ جلالُ الدين الخبّازي الحنفي
[ت691هـ] في "شرح الهداية"، وذكر أنه تركه شبهُ قول المعتزلة؛
فإنهم ينكرون عذاب القبر، كما ذكر الحافظ السخاوي في "الإيضاح
والتبيين" (ص: 176).
وقال الإمام أبو بكر الحدّادي الحنفي [ت800هـ] في "الجوهرة
النيرة" (1/102، ط. المطبعة الخيرية): [وأما تلقين الميت في
القبر فمشروع عند أهل السنة؛ لأن الله تعالى يحييه في القبر]
اهـ.
وقال الإمام الكمال بن الهُمَام الحنفي في كتابه "فتح القدير"
(2/104، ط. دار الفكر): [وأما التلقين بعد الموت وهو في القبر:
فقيل: يُفعَل؛ لحقيقةِ ما روينا، ونُسِبَ إلى أهل السنة
والجماعة وخلافُه إلى المعتزلة، وقيل: لا يُؤمَر به ولا يُنهَى
عنه، ويقول: يا فلان، يا ابن فلان! اذكر دينك الذي كنتَ عليه
في دار الدنيا؛ شهادةَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله. ولا شك أن اللفظ لا يجوز إخراجه عن حقيقته إلا بدليل؛
فيجب تعيينه] اهـ.
وقال العلامة الشهاب الشلبي الحنفي [ت1021هـ] في "حاشيته على
تبيين الحقائق" (1/234، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [(قوله:
يلقن لظاهر ما روينا إلخ) ونُسب إلى أهل السنة والجماعة،
وخلافه إلى المعتزلة اهـ. كمال. قال قاضي خان: إن كان التلقين
لا ينفع لا يضر أيضًا؛ فيجوز اهـ. قال في "الحقائق": قال صاحب
"الغياث": سمعت أستاذي قاضي خان يحكي عن ظهير الدين
المرغيناني: أنه لقن بعض الأئمة بعد دفنه، وأوصاني بتلقينه،
فلقنته بعد ما دُفن، ثم نقل صاحب "الحقائق" ما نقله أولًا عن
قاضي خان؛ وعبارته في المنظومة في باب الشافعي: ويحسن التلقين
والتسميع، قال في "الحقائق": ذكر الإمام الزاهد الصفار في
"التلخيص" أن تلقين الميت مشروع؛ لأنه تعاد إليه روحه وعقله
ويفهم ما يُلَقَّن، قلت: ولفظ التسميع يُخرَّج على هذا؛
وصورتُه أنه يقول: يا فلان بن فلان! اذكر دينك الذي كنت عليه؛
رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وآله
وسلم نبيًّا، وعلى قول المعتزلة لا يفيد التلقين بعد الموت؛
لأن الإحياء عندهم مستحيل. انتهى ما قاله في "الحقائق"] اهـ.
وقال العلامة الشرنبلالي الحنفي [ت1069هـ] في "مراقي الفلاح"
(ص: 560، ط. دار الكتب العلمية): [(وتلقينُه) بعد ما وُضع (في
القبر مشروعٌ)؛ لحقيقة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أن لَا إلَهَ إلَّا الله»
أخرجه الجماعة إلَّا البخاري، ونُسِبَ إلى أهل السنة والجماعة،
(وقيل: لا يُلَقَّنُ) في القبر، ونُسِب إلى المعتزلة، (وقيل:
لا يُؤمَر به ولا يُنهَى عنه)، وكيفيته أن يُقال: يا فلان بن
فلان! اذكر دينك الذي كنتَ عليه في دار الدنيا بشهادة أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولا شك أن اللفظ لا يجوز
إخراجه عن حقيقته إلا بدليل؛ فيجب تعيينُه؛ فقوله:
«مَوْتاكُمْ» حقيقةٌ، ونفيُ صاحب "الكافي" فائدتَه مطلقًا:
ممنوعٌ، نعم، الفائدة الأصلية منفية، ويُحتاج إليه لتثبيت
الجنان للسؤال في القبر] اهـ.
قال العلامة الطحطاوي في "حاشيته عليه": [في "الجواهر": سئل
القاضي محمد الكرماني عنه فقال: «ما رَآهُ المُسلمون حسنًا فهو
عندَ اللهِ حَسَنٌ» كذا في "القهستاني"، وكيف لا يُفعَل مع أنه
لا ضرر فيه! بل فيه نفع للميت؛ لأنه يستأنس بالذكر على ما ورد
في بعض الآثار.. قوله: (ولا شك أن اللفظ) أي وهو موتاكم، قال
البرهان الحلبي: ولا مانع من الجمع بين الحقيقة والمجاز في مثل
هذا اهـ قوله: "فيجب تعيينه" أي تعيين اللفظ باعتبار المعنى أو
تعيين هذا القيل وهو مشروعية التلقين في القبر] اهـ.
وعند المالكية:
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي في "المسالك في شرح موطأ
مالك" (3/520، ط. دار الكتب العلمية): [إذا أُدخِل الميتُ
قبرَه فإنه يُستَحَبُّ تلقينه في تلك الساعة، وهو مستحَبٌّ،
وهو فعل أهل المدينة والصالحين والأخيار؛ لأنه مطابق لقوله
تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾، وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير بالله تعالى
عند تغير الحال وخروج الروح وعند سؤال الملك؛ لأنه يخاف عند
ذلك أن يختلسه الشيطان، فيُذَكَّر بالله تعالى، ولقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: «لَقِّنُوا أَمْوَاتَكُمْ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ»، ولهذه النكتة اختلف استفتاح المصنفين في كتبهم
في "الجنائز"؛ فأما البخاري فقال في كتاب الجنائز: (مفتاح
الجنة: لا إله إلَّا الله)، وأمّا مسلم فقال: (لقنوا موتاكم:
لا إله إلَّا الله) لهذا المعنى؛ لأنه موضع يتعرض الشيطان فيه
لإفساد اعتقاده ودينه وآخرته ويجتهد في ذلك، فأمر النبي صلى
الله عليه وآله وسلم بذلك ليكون تذكيرًا له وتنبيهًا لِمَا وعد
به] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "التذكرة في أحوال الموتى وأمور
الآخرة" (ص: 343، ط. مكتبة دار المنهاج): [قال شيخنا أبو
العباس أحمد بن عمر القرطبي: ينبغي أن يُرشَد الميتُ في قبره
حيث يوضع فيه إلى جواب السؤال، ويُذَكَّر بذلك؛ فيقال له: قل
الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد رسولي؛ فإنه عن ذلك يُسأَل كما
جاءت به الأخبار على ما يأتي إن شاء الله. وقد جرى العمل عندنا
بقرطبة كذلك] اهـ.
وقال الإمام الحافظ تقي الدين بن دقيق العيد المالكي في "نهاية
البيان": [إنه لا بأس به؛ فقد رُوِيَ أنه كان سُنّةَ السلف]
اهـ، نقلا عن كتاب "المعين على فعل سنة التلقين" (ق: 2/ب)
للحافظ الناجي.
وقال العلامة ابن الحاج المالكي في "المدخل" (3/264-265، ط.
دار التراث): [وينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه مَن كان
مِن أهل الفضل والدين، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويُلَقِّنه؛
لأن الملكين -عليهما السلام- إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال
المنصرفين عنه. وقد روى أبو داود في "سننه" عن عثمان رضي الله
عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من
دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت
فإنه الآن يسأل"، وروى رزين في كتابه عن علي رضي الله عنه أنه
كان يقول بعد ما يفرغ من دفن الميت: "اللهم هذا عبدك نزل بك
وأنت خير منزول به فاغفر له ووسع مدخله"، وقد كان سيدي أبو
حامد بن البقال -وكان من كبار العلماء والصلحاء- إذا حضر جنازة
عزَّى وليَّها بعد الدفن وانصرف مع من ينصرف فتوارى هنيهة حتى
ينصرف الناس، ثم يأتي إلى القبر فيذكر الميت بما يجاوب به
الملكين عليهما السلام، ويكون التلقين بصوت فوق السر ودون
الجهر فيقول: (يا فلان لا تنس ما كنت عليه في دار الدنيا من
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، فإذا جاءك الملكان عليهما السلام وسألاك فقل لهما:
الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي)، وما زاد
على ذلك أو نقص فخفيف، وما يفعله كثير من الناس في هذا الزمان
من التلقين برفع الأصوات والزعقات لحضور الناس قبل انصرافهم
فليس من السنة في شيء بل هو بدعة] اهـ.
وقال الشيخ أبو علي البجائي المالكي: [كان السلف إذا دُفِن
الميت وقفوا عنده، فيقولون: يا فلان! لا تنس ما فارقتنا عليه
في دار الدنيا؛ شهادةَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده
ورسوله] اهـ، نقلا عن "الإيضاح والتبيين لمسألة التلقين"
للحافظ السخاوي (ص: 183).
وقال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/220، ط. دار
الفكر): [وجزم النووي باستحبابه، وقال الشيخ زروق في "شرح
الرسالة" و"الإرشاد": وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من
المالكية فقال: هو الذي نختاره ونعمل به، وقد روينا فيه حديثًا
عن أبي أمامة رضي الله عنه ليس بالقوي، ولكنه اعتضد بالشواهدِ
وعَمَلِ أهل الشام قديمًا، وقال المتيوي: يُستَحَبُّ أن يجلس
إنسان عند رأس الميت عقب دفنه ويقول له: يا فلان بن فلان! أو
يا عبد الله! أو يا أمة الله! اذكر العهد الذي خرجْتَ عليه من
الدنيا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن
محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة
آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور، رضيت بالله
ربا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولًا،
وبالقرآن إمامًا، وبالكعبة قبلةً، وبالمسلمين إخوانًا، ربي
الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم انتهى..
ونقل كلام ابن الحاج في "المدخل".. ثم قال: واستحب التلقينَ
بعد الدفن أيضا القرطبيُّ والثعالبيُّ وغيرُهما، ويظهر من كلام
الأُبِّي -في أول كتاب الجنائز وفي حديث عمرو بن العاص رضي
الله عنه في كتاب الإيمان- ميل إليه] اهـ.
وعند الشافعية:
قال الشيخ محب الدين الطبري الشافعي في "شرح التنبيه" [لم يزل
العملُ بالتلقين قديمًا وحديثًا بين ظَهرانَيْ من يُقتَدَى به]
اهـ، نقلا عن "المعين على فعل سنة التلقين" للحافظ الناجي (ق:
2/ب).
وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في "الفتاوى" (ص: 261،
ط. مكتبة العلوم والحكم): [أما تلقين البالغ فهو الذي نختاره
ونعمل به، وذكره جماعة من أصحابنا الخراسانيين، وقد روينا
حديثا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ليس بالقائم إسناده ولكن
اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام به قديمًا، وهو مختصر، وليس فيه
ما يذكره العامة الملقِّنون من التطويل] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (2/138، ط. المكتب
الإسلامي): [قلت: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا؛ منهم:
القاضي حسين، وصاحب (التَّتِمَّة) والشيخ نصر المقدسي في كتابه
"التهذيب" وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا،
والحديث الوارد فيه ضعيف، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند
أهل العلم من المحدثين وغيرهم، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من
الأحاديث الصحيحة؛ كحديث «اِسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ»،
ووصية عمرو بن العاص (أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم
لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي) رواه مسلم
في (صحيحه)، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين مِن
العصر الأول، وفي زمنِ مَن يُقتدَى به] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج"
(3/207، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [ويُستَحَبُّ تلقينُ
بالغٍ: عاقلٍ، أو مجنون سبق له تكليفٌ، ولو شهيدًا كما اقتضاه
إطلاقهم، بعد تمام الدفن؛ لخبرٍ فيه، وضعفُه اعتضد بشواهدَ على
أنه مِن الفضائل، فاندفع قول ابن عبد السلام: إنه بدعة،
وترجيحُ ابنِ الصلاح أنه قبل إهالة التراب مردودٌ بما في خبر
الصحيحين «فإذا انصرفوا أتاه ملكان» فتأخيرُه بعد تمامه أقربُ
إلى سؤالهما] اهـ.
وعند الحنابلة:
قال شيخ الحنابلة في عصره الإمامُ أبو الخطاب محفوظ الكلوذاني
الحنبلي [ت510هـ] في كتاب "الهداية على مذهب الإمام أحمد" (ص:
123، ط. مؤسسة غراس): [ويُسَنُّ تلقينُه بعد فراغه مِن دفنه
كما روى أبو أمامة رضي الله عنه] اهـ.
وقال الإمام السامري الحنبلي [ت616هـ] في "المستوعب" (1/317،
ط. مكة المكرمة): [ويُسَنُّ أن يلقَّن الميتُ المكلف، ذكره ابن
عقيل، وقال شيخنا: يُلَقَّن وإن لم يكن مكلفًا؛ لأن النبي صلى
الله عليه وآل وسلم لقّن ابنه إبراهيم عليه السلام وكان عمره
ثمانية عشر شهرًا] اهـ.
وقال الحافظ أبو منصور عبد الله بن محمد بن الوليد الحنبلي
الملقَّب بـ"جُزَيْرَةَ" [ت643هـ] في كتابه "جامع الدعاء
الصحيح" بعد سياقه حديث أبي أمامة رضي الله عنه: [وقد أرخص
الإمام أحمد بن حنبل في تلقين الميت، وأعجبه ذلك، وقال: أهل
الشام يفعلونه]، ثم قال: [وهو من القربات والتذكير بالله،
والتسامح في ذلك مأثور عن السلف] اهـ، نقلا عن "البدر المنير"
للحافظ ابن الملقن (3/335) وعنده: [وهو من العزمات]، و"المعين
على فعل سنة التلقين" للحافظ البرهان الناجي (ق: 3/أ).
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "اقتضاء الصراط المستقيم"
(2/179، ط. دار عالم الكتب): [ورُوِيَ في تلقين الميت بعد
الدفن حديثٌ فيه نظر، لكن عمل به رجال من أهل الشام الأولين،
مع روايتهم له، فلذلك استحبَّه أكثر أصحابنا وغيرهم. فهذا
ونحوه مما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، ويأمر به
أمته عند قبور المسلمين، عقب الدفن، وعند زيارتهم، والمرور
بهم، إنما هو تحية للميت، كما يُحَيَّى الحيُّ ودعاءٌ له كما
يُدعَى له، إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده، وفي ضمن الدعاء
للميت، دعاء الحي لنفسه، ولسائر المسلمين، كما أن الصلاة على
الجنازة فيها الدعاء للمصلي، ولسائر المسلمين، وتخصيص الميت
بالدعاء له، فهذا كلُّه، وما كان مثلَه، من سنة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وما كان عليه السابقون الأولون، هو
المشروع للمسلمين في ذلك. وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر
النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "الروح" (ص: 13، ط. دار الكتب
العلمية): [فصلٌ: ويدل على هذا أيضًا ما جرى عليه عمل الناس
قديمًا وإلى الآن مِن تلقين الميت في قبره، ولولا أنه يسمع ذلك
وينتفع به لم يكن فيه فائدةٌ وكان عبثًا، وقد سُئِل عنه الإمام
أحمد رحمه الله فاستحسنه واحتج عليه بالعمل]، ثم ساق الحديث
السابق، ثم قال: [فهذا الحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في
سائر الأمصار والأعصار مِن غير إنكارٍ كافٍ في العمل به، وما
أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمةً طبقت مشارق الأرض
ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولًا وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة
مَن لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك؛ لا ينكره منها مُنكِرٌ، بل
سَنَّهُ الأولُ للآخِرِ، ويَقتدي فيه الآخرُ بالأولِ، فلولا أن
المخاطب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر
والمعدوم، وهذا وإن استحسنه واحدٌ فالعلماء قاطبةً على
استقباحه واستهجانه] اهـ.
وقال الإمام ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (3/383، ط. مؤسسة
الرسالة): [وأما تلقينه بعد دفنه فاستحبه الأكثرون "و م ش"]
اهـ؛ أي: وفاقًا لمالك والشافعي.
قال العلامة المرداوي الحنبلي في "تصحيح الفروع" المطبوع مع
"الفروع" (3/385-386): [قوله: وفي تلقين غير مكلف وجهان، بناء
على نزول الملكين وسؤاله وامتحانه، النفيُ: قول القاضي وابن
عقيل، وهو ظاهر ما قدمه في "المستوعب"، قلت: وهو الصحيح، وعليه
العمل في الأمصار، والإثبات قول أبي حكيم وغيره، وحكاه ابن
عبدوس عن الأصحاب، وقدمه الشيخ عبد الله كتيلة في كتابه
"العدة"، قال الشيخ تقي الدين: وهو أصح، قال في "المستوعب":
قال شيخنا: يلقن، وقدمه في "الرعايتين"، قال في "مجمع
البحرين": وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، وقال ابن حمدان في "نهاية
المبتدئين:: قال أبو الحسن بن عبدوس: يُسأل الأطفال عن الإقرار
الأول حين الدراية، والكبار يسألون عن معتقدهم في الدنيا
وإقرارهم الأول، انتهى. وأطلقهما ابن تميم وصاحب "الحاويين"
و"مجمع البحرين"] اهـ.
وقال العلامة المرداوي أيضًا في "الإنصاف" (2/548، ط. دار
إحياء التراث العربي): [يُستَحَبُّ تلقينُ الميت بعد دفنه عند
أكثر الأصحاب؛ قال في "الفروع": استحبه الأكثر، قال في "مجمع
البحرين": اختاره القاضي، وأصحابه، وأكثرنا، وجزم به في
"المستوعب"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، و"مختصر ابن تميم"،
وغيرهم، فيجلس الملقن عند رأسه، وقال الشيخ تقي الدين: تلقينه
بعد دفنه مباح عند أحمد، وبعض أصحابنا، وقال: الإباحة أعدل
الأقوال، ولا يكره] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات"
(1/373-374، ط. عالم الكتب): [(و) سُنَّ (تلقينُه) أي: الميت
بعد الدفن عند القبر؛ لحديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه..
وظاهره: لا فرق بين الصغير وغيره؛ بناءً على نزول الملكين
إليه، ورجحه في "الإقناع"، وصححه الشيخ تقي الدين، وخصه بعضهم
بالمكلف] اهـ.
وينبغي هنا التنبيه على أمرين:
الأول: أن الذي عليه جماهير علماء المسلمين سلفًا وخلفًا في
تعريف "البدعة" أنها تطلق على كل ما لم يكن موجودًا على عهد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها تعتريها الأحكام
التكليفية الخمسة:
فقد أسند الحافظ أبو نعيم في "الحلية" (9/113، ط. دار الكتاب
العربي) من طريق حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس
الشافعي رضي الله عنه يقول: [البدعة بدعتان: بدعة محمودة،
وبدعة مذمومة؛ فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو
مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: "نعمت البدعة
هي"] اهـ.
وأسند الحافظ البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (ص: 206،
ط. دار الخلفاء) من طريق الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي
رضي الله عنه: [المُحدَثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أُحدِث
يخالف كتابا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا, فهذه البدعة الضلالة،
والثانية: ما أُحدِث مِن الخير لا خلاف فيه لواحد مِن هذا,
فهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر
رمضان: «نعمت البدعة هذه» يعني أنها محدثة لم تكن, وإن كانت
فليس فيها رد لِمَا مضى] اهـ.
وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم
الدين" (2/3، ط. دار المعرفة): [ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه،
بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرًا من الشرع مع
بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت
الأسباب] اهـ.
وقال العلامة ابن الأثير في "النهاية" (1/107، ط. المكتبة
العلمية): [البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في
خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو في
حيز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب إليه وحض
عليه؛ فهو في حيز المدح، وما لـم يكن له مِثال موجود كنَوْع من
الـجُود والسّخاء وفِعْل الـمعروف فهو من الأَفعال الـمـحمودة]
اهـ.
وقال الإمام العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح
الأنام" (2/204، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): ["البدعة": فعل
ما لم يُعهَدْ في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي
منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة
مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على
قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت
في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي
مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في
قواعد المباح فهي مباحة] اهـ.
وهذا التأصيل هو الذي عليه المذاهب المتبوعة وعلماء الأمة من
الفقهاء والمحَدِّثين والقدماء والمحْدَثين: أن البدعة على
أقسام كما ظهر ذلك في كلام الإمام الشافعي، ونص على ذلك من جاء
بعده من الشافعية؛ كالإمام العز بن عبد السلام، والإمام
النووي، والإمام أبي شامة، ومن المالكية: الإمام القرافي،
والإمام الزرقاني، ومن الحنفية: العلامة ابن عابدين، ومن
الحنابلة: الإمام الحافظ ابن الجوزي، ومن الظاهرية: الإمام أبو
محمد بن حزم، وغيرهم.
وعلى هذا التأصيل يُفهَم قولُ الإمام العز بن عبد السلام في
التلقين في "فتاويه" (ص: 96، ط. دار المعرفة): [لم يصح في
التلقين شيء، وهو بدعة] اهـ؛ فإنّ جزْمَه بعدم الثبوت يقتضي
كونَه بدعةً عنده؛ أي: أمرًا حادثًا بعد العهد النبوي تجري
عليه الأحكام التكليفية الخمسة، لا أنه بدعة ضلالة أو منهيٌّ
عنه كما زعم بعضُ مَن لم يَفهَمْ كلامَه.
الثاني: أنَّ مُرادَ مَن نُقِل عنهم عدمُ استحباب التلقين بعد
الموت هو أنه ليس من السنن النبوية الثابت ورودُها؛ بناءً على
ترجيحهم ضعفَ الحديث الوارد، وليس مرادهم انتفاء مشروعيتها؛
ولذلك فقد صرَّح كثيرٌ منهم بالإباحة، ولم يقل أحدٌ من علماء
الأمة عبر العصور إن هذا التلقين حرام أو بدعة ضلالة يأثم
فاعلُها كما يدَّعيه بعض جهلة هذا الزمان؛ إذ القول بتحريمه
وتضليله يستلزم الطعنَ في السلَف والتجهيلَ للخلَف، وهي دعوى
مبتدَعةٌ مخترَعةٌ لم يعرفها التراث الإسلامي ولا أرباب
المذاهب السنية المتبوعة، فلا عبرة بها ولا التفات إليها،
ولمّا لحظ جماعة من العلماء ابتناء دعوى المنع على قول
المعتزلة النافين للسؤال في القبر جعلوا القول بمشروعية
التلقين من مسائل العقيدة في مذهب أهل السنة والجماعة؛ كما صنع
الإمام أبو إسحاق الصفّار الحنفي في كتابه "تلخيص الأدلة
لقواعد التوحيد"، واعتنى بذكر سنة التلقين وتأكيد مشروعيتها
بعض مَن صنَّف في البدع بل وتشدد في بعض مسائلها كالشيخ ابن
الحاج المالكي في "المدخل".
وقد اعتنى أهل العلم بنشر هذه السُّنّة وتصدَّوْا لإحيائها
وتثبيتها؛ فعندما ظهر في بعض العصور مَن ينكر سنة التلقين،
صنَّف العلماءُ في الرد عليه، حتى أفرد هذه المسألةَ بالتأليف
جماعةٌ من الأئمة الحفاظ والفقهاء الأفذاذ؛ استدلالًا على
مشروعية التلقين، وأنه من المطلوبات الشرعية، منهم:
- الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري [ت656هـ] صاحب
"الترغيب والترهيب"، في "جزئه في التلقين"؛ ذكره الحافظ ابن
الملقن في "البدر المنير" (5/335، ط. دار الهجرة).
- والإمام برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الناجي
الدمشقي الشافعي [ت900هـ] في كتابه "المعين على فعل سنة
التلقين"؛ وهو مخطوط، وقد سبق النقل عنه.
- الإمام الحافظ السخاوي في كتابه "الإيضاح والتبيين بمسألة
التلقين" وهو مطبوع مع كتابه "قرة العين بالمسرة الحاصلة
بالثواب للميت والأبوين".
- الإمام تاج الدين الفاكهاني المالكي في كتابه "بَلَج اليقين
في الحث على التلقين"، ذكره الحافظ السخاوي في "الإيضاح
والتبيين".
قال الحافظ برهان الدين الناجي الشافعي في رسالته "المعين على
فعل سنة التلقين" وهو يستدل على مشروعية هذه السنة، وينكر على
من أنكرها، ويبين أن في تركها تضييعًا للسنن، وأن إنكارها شاهد
على ظهور البدع (ق: 1/ب): [من المعلوم المعمول به قديمًا
وحديثًا بلا شك ولا إنكار: تلقين الميت بعد الدفن.. فهذا
استحبه جماعات كثيرون من أصحابنا الشافعية؛ منهم: القاضي حسين
ونقله عن الأصحاب مطلقًا، وهو وحدَه كافٍ، ومنهم: صاحب القاضي
المذكور المتولي في "التتمة" قال: يُستحَبُّ تلقين الميت؛ لأن
الخبر ورد بسؤال القبر، وذكره، ومنهم: الشيخ نصر المقدسي، وأبو
القاسم الرافعي، وأبو زكريا النووي، وغيرهم]، ثم قال (ق: 3/أ):
[والحاصل أن التلقين عليه عملُ الناس قاطبة من أهل الشام
وغيرهم، مِن حين مات سيدنا أبو أمامة الباهلي الصحابي الشامي،
واسمه: صُدَيُّ بن عجلان رضي الله عنه، وقد نزل الشام بعد
صاحبه سيد الأنام، وبها جاءه الحِمَام، وقد وصّاهم بتلقينه وهو
في النزع كما في حديثه المطول، ويستمر إن شاء الله إلى آخر
الزمان، وبالشام طائفة لا تزال على الحق قائمة به ظاهرة، لا
يضرها من خذلها ولا من خالفها، وفي الحديث: «أهل الشام سوط
الله في أرضه؛ ينتقم بهم ممن شاء من عباده، وحرام على منافقيهم
أن يظهروا على مؤمنيهم، ولا يموتوا إلا هما وغمًّا»، وأي سماء
تُظِلُّ وأي أرض تُقِلُّ من يحمله الجهل أن يتكلم بغير علم
فيَضِلَّ ويُضِلَّ، ويخالف ليُعرَف فيَزِلَّ ويُزِلَّ] اهـ.
وبناء على ذلك: فتلقينُ الميت سنة نبوية شريفة واردة عن سيد
المرسلين، قوَّى حديثَها جماعةٌ مِن المُحدِّثين، ونص على
مشروعيتها ما لا يُحصَى كثرةً من علماء الأمة وفقهائها
المتبوعين، واتصل الخلف فيها بموصول السلف، وأطبقت الأمة
الإسلامية عليها عملًا واستحسانًا؛ لا ينكرها منها مُنكِرٌ، بل
سَنَّهُا الأولُ للآخِرِ، ويَقتدي فيها الآخرُ بالأولِ، وممن
استحسنها إمامُ أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رضي
الله عنه، واحتج عليها باتصال العمل عبر الأمصار والأعصار من
غير إنكار، ولم يقل بتحريم هذا التلقين أحدٌ مِن علماء الأمة
في قديم الدهر أو حديثه، ومن لم يُثبِتْ منهم حديثَ التلقين
نظر إلى فعل السلف له فاستحبه أو أباحه، أما القول بتحريمه
وتأثيم فاعليه فهو قول مرذولٌ مبتدَعٌ مخترعٌ لم يُسبَق إليه
صاحبُه إلَّا مِن قِبَل أهل البدع والأهواء؛ كالمعتزلة ونحوهم،
فلا يصح التعويل عليه ولا الالتفات إليه، وشيوعُ ترك هذا
التلقين في بعض الأمكنة هو مِن إماتة السنن وإظهار البدع، أما
اتهامُ فاعليه بأنهم قد ابتدعوا ضلالةً خرجوا بها على الشريعة
فهو البدعة المنكرة التي يلزم صاحبَها تضليلُ سلفِ الأمة
وخلفِها، وعلمائِها وعوامِّها، ولا يعدو أن يكون اتهامُه هذا
ضربًا من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله
وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم