قد ورد قرءانًا وصف الله بأنه مستوٍ على العرش، فيجب الإيمان
بذلك بلا كيف، فليس بمعنى الجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة للعرش،
لأن ذلك كَيْفٌ، والله منـزه عن الاستواء بالكيف، لأنه من صفات
الأجسام، بل نقول: استوى على العرش استواء يليق به هو أعلم بذلك
الاستواء، وهذا موافق ومنسجم مع الآية المحكمة :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَىءٌ }
*وقد سئل الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه عن الاستواء فقال: “من قال
لا أعرف الله أفي السماء هو أم في الأرض فقد كفر”، لأن هذا القول يوهم
أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه.اهـ وهذا القول
ثابت عن الإمام أبي حنيفة نقله من لا يحصى كالإمام أبي منصور
الماتريدي [ت333هـ] في شرحه على الفقه الأكبر والإمام أحمد الرفاعي
في “البرهان المؤيد” والعز ابن عبد السلام في حل الرموز والشيخ تقي
الدين الحصني في “دفع شبه من شبه وتمرد” والشيخ علوان ابن السيد
عطية الحسيني الحموي [ت936هـ] في كتابه بيان المعاني وشمس الدين
الرملي[1004هـ] في فتاويه والنفراوي [1126هـ] في الفواكه الدواني والشيخ
محمد بن سليمان الحلبي في نخبة اللآلى وغيرهم.
وأما ما قاله المجسم ابن القيم في نونيته :
وكذلك النعمان قال وبعده يعقوب والألفاظ للنعمان
من لم يقر بعرشه سبحانه فوق السماء وفوق كل مكان
ويقر أن الله فوق العرش لا يخفى عليه هواجس الأذهان
فهو الذي لا شك في تكفيره لله درك من إمام زمان
هو الذي في الفقه الأكبر عندهم وله شروح عدة لبيــان
أقول: إن هذا
المجسم يريد أن يروّج بدعته هذه بالكذب على الإمام أبي حنيفة رضي
الله عنه. وهذا الفقه الأكبر بين أيدينا فليراجعه من شاء، وغير
غريب أن يكذب هذا الرجل فإنه مبتدع داعية إلى بدعته غال فيها كلَّ
الغلو، وكلّ مبتدع هذا شأنه لا يتوقى الكذب لينصر بدعته، فهذا
“الفقه الأكبر” فيه:
«والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له : قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} [سورة الإخلاص]
لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شىءٌ من خلقه».
وفيه: « وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة، فمن قال إنها
مخلوقة أو محدَثة أو توقَّفَ فيها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى».
وفيه: «وهو شىءٌ لا كالأشياء. ومعنى الشىء إثباته بلا جسم ولا
عَرَض ولا حد له ولا ضد له ولا نِد له ولا مِثل له»
وفيه أيضا:«ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه
ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة».
وفي “الوصية” للإمام أبي حنيفة: «ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق
بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة».
وفي “الوصية” للإمام: “نقر بأن الله على العرش استوى من غير أن
يكون له حاجة إليه واستقرار عليه وهو الحافظ للعرش وغير العرش، فلو
كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق ولو كان
محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى!
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.اهـ
وفي “الفقه الأبسط” للإمام: ” من قال لا أعرف ربي في السماء أو في
الأرض فهو كافر، وكذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي
السماء أو في الأرض”اهـ
وقال أيضا: ” كان الله تعالى ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق،كان
ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء، وهو خالق كل شىء ” اهـ.
وإنما كفَّر الإمام قائل هاتين العبارتين لأنه جعل الله مختصًّا
بجهة وحيز، وكلّ ما هو مختص بالجهة والتحيز فإنه محتاج محدث
بالضرورة أي بلا شك، وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أن السماء
والعرش مكان لله تعالى بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة عن الله
– وقد نقلنا ذلك-، ومن ذلك قوله: “ولو كان محتاجا إلى الجلوس
والقرار فقبل خلق العرش أين كان”اهـ. ففي هذه إشارة من الإمام رضي
الله عنه إلى إكفار من أطلق التشبيه والتحيز على الله كما قال
العلامة البَيَاضي الحنفي في “إشارات المرام” والشيخ الكوثري في
“تكملته” وغيرهما.
وفي “شرح الفقه الأكبر” لـملا علي القاري: “ثم قال: ومنه ما روي عن
أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رحمه الله عمن قال: لا أعرف ربي
في السماء هو أم فيالأرض، فقال: قد كفر لأن الله تعالى يقول :{الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وعرشه فوق سبع سمواته، قلت: فإن قال
إنه على العرش ولا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر
لأنه أنكر كونه في السماء فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر لأن الله
تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل” اهـ.
والجواب أنه ذكر الشيخ الإمام ابن عبد السلام في كتاب “حل الرموز”
أنه قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: “من قال لا أعرف الله تعالى
في السماء هو أم في الأرض كفر، لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا
ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه”اهـ ولا شك أن ابن عبد السلام من
أجل العلماء وأوثقهم فيجب الاعتماد على نقله لا على ما نقله الشارح،
مع أن أبا مطيع رجل وضاع عند أهل الحديث كما صرح به غير واحد”
انتهى كلام ملا علي القاري.
أقول: والعجب من ابن أبي العز أنه اعتمد على هذه الرواية، مع أنه
في موضع ءاخر من شرحه يضعف أبا مطيع البلخي، وينقل تضعيفه عن أحمد
والبخاري وغيرهما.اهـ
قال الشيخ مصطفى أبو السيف الحمامي في كتابه “غوث العباد ببيان
الرشاد” بعد أن نقل كلام ملا علي القاري: “ومنه يعلم أمور: الأمر
الأول: أن تلك المقالة ليست في “الفقه الأكبر”، وإنما نقلها عن أبي
حنيفة ناقل فيكون إسنادها إلى الفقه الأكبر كذبا يراد به ترويج
البدعة.
الأمر الثاني: أن هذا الناقل مطعون فيه بأنه وضاع لا يـحل الاعتماد
عليه في نقل يبنى عليه حكم فرعيّ فضلا عن أصلي فالاعتماد عليه
وحاله ما ذكر خيانة يريدالرجل بها أن يروّج بدعته .
الأمر الثالث: أن هذا النقل صرّح إمام ثقة هو ابن عبد السلام بما
يكذبه عن أبي حنيفة بالنقل الذي نقله عن هذا الإمام الأعظم رضي
الله عنه، فاعتماد الكذاب وإغفال الثقة خيانة يراد به تأييد بدعته
وهي جرائم تكفي واحدة منها فقط لأن تسقط الرجل من عداد العدول
العاديين لا أقول من عداد العلماء أو أكابر العلماء أو الأئمة
المجتهدين، ويعظم الأمر إذا علمنا أن الخيانات الثلاث في نقل واحد
وهو مما يرغم الناظر في كلام هذا الرجل على أن لا يثق بنقل واحد ينقله
فإنه لا فرق بين نقل ونقل، فإذا ثبت خيانته في هذا جاز أن تثبت في
غيره وغيره” انتهى كلام الحمامي.
ولهذا قال الشيخ العلامة الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي
الطرابلسي الحنفي [1305هـ] في كتابه الاعتماد في الاعتقاد ما نصه:
«ولا يقال لا يعلم مكانه إلا هو، ومن قال لا أعرف الله في السماء
أم في الأرض كفر، لأنه جعل أحدهما له مكانا. فإن قال لك: ما دليلك
على ذلك؟ فقل لأنه لو كان له جهة أو هو في جهة لكان متحيزا، وكل
متحيز حادث (مخلوق)، والحدوث عليه محال»اهـ.
وقال ملا علي القاري في “شرح الفقه الأكبر” :” فمن أظلم ممن كذب
على الله أو ادعى ادعاء معينًا مشتملاً على إثبات المكان والهيئة
والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة، فيصير كافرًا لا
محالة.اهـ
وقال:” البدعة لا تزيل الإيمان والمعرفة”. ثم استثنى منها فقال:
إلا التجسيم وإنكار علم الله سبحانه بالجزئيات فإنه يكفر بهما
بالإجماع من غير نزاع. اهـ
وقال ملا عليّ القاري في شرحه على الفقه الأكبر”: ثم قال القونوي:
وفي قوله “بذنب” إشارة إلى تكفيره بفساد اعتقاده كفساد اعتقاد
المجسمة والمشبهة والقدرية ونحوهم.اهـ
وقال ملا علي القاري ما نصه: نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء
قبل حصولها فهو كافر وإن عد قائله من أهل البدع، وكذا من قال بأنه
سبحانه جسم وله مكان ويمر عليه زمان ونحو ذلك فإنه كافر حيث لم
تثبت له حقيقة الإيمان.اهـ
وأما ما نسبه المجسم ابن القيم إلى يعقوب وهو الإمام أبو يوسف صاحب
الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهما، قال الشيخ مصطفى الحمامي الذي هو
أحد علماء الأزهر: “لا أشك في أنه كذب يروج به هذا الرجل بدعته” اهـ
وكذا قال الكوثري في “تكملته”اهـ. فبهذا ينتسف ما قاله المجسم ابن
القيم.
وكذلك ما تنسبه الوهابية إلى أبي حنيفة أنه قال: “الله في السماء”
فغير ثابت ففي سنده أبو محمد بن حيّان ونعيم بن حماد ونوح بن أبي
مريم أبو عصمة، فالأول ضعفه بلديه الحافظ العسال. ونعيم بن حماد
مجسم. وكذا زوج أمه نوح ربيب مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة. فنوح
أفسده زوج أمه ونعيم أفسده زوج أمه، وقد ذكره كثير من أئمة أصول
الدين في عداد المجسمة، فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به
لمذهبه ؟!، قال الحافظ ابن الجوزي في “دفع شبه التشبيه” عن نعيم بن
حماد: “قال ابن عدي: كان يضع الأحاديث، وسئل عنه الإمام أحمد فأعرض
بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول.اهـ
فإن قالت الوهابية: ذكره الذهبي نقلا عن البيهقي في “الأسماء
والصفات”. قلنا: رواه البيهقي في “الأسماء والصفات” وقال: “إن صحت
الحكاية”، فهذا يدل على عدم أمانة الذهبي في النقل حيث أغفل هذا
القيد ليوهم القارئ أن القول بأن الله في السماء كلام إمام مثل أبي
حنيفة.
قال الشيخ الكوثري في تكملته: “وقد أشار البيهقي بقوله: “إن صحت
الحكاية “إلى ما في الرواية من وجوه الخلل”اهـ. على أن الإمام البيهقي
ذكر في “الأسماء والصفات” في كثير من المواضع أن الله منزه عن
المكان والحد ومن ذلك قوله: “وما تفرد به الكلبي وأمثاله يوجب الحد،
والحد يوجب الحدث لحاجة الحد إلى حاد خصه به، والبارئ قديم لم يزل”
اهـ. وقوله: “وأن الله تعالى لا مكان له”، ثم قال: “فإن الحركة
والسكون والاستقرار من صفات الأجسام والله تعالى أحد صمد ليس كمثله
شىء” اهـ.
وقوله: «والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق
الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى
بلا تشبيه، جل الله تعالى عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها
علوا كبيرًا» اهـ.
فوضح بعد هذا البيان الشافي أن دعوى إثبات المكان لله تعالى أخذا
من كلام أبي حنيفة رضي الله عنه افتراء عليه وتقويل له بما لم يقل .
* وقد ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه
“الأسماء والصفات”، بإسناد جيد كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني
في “الفتح” من طريق عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل
رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كيف
استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال {الرَّحْمَنُ
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }كما وصف نفسه، ولا يقال كيفَ وكَيْفَ
عنه مرفوعٌ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال: فأخرج الرجل.اهـ
فقول الإمام مالك: “وكيف عنه مرفوع” أي ليس استواؤه على العرش كيفا
أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه. وقوله:” أنت رجل سوء
صاحب بدعة أخرجوه”، وذلك لأن الرجل سأله بقوله كيف استواؤه، ولو
كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على
ظاهرها ما كان اعترض عليه.
قال المحدث الشيخ سلامة القضاعي العزامي [1376هـ] -من علماء الأزهر-
عن قول مالك لذاك الرجل “صاحب بدعة”: لأن سؤاله عن كيفية الاستواء
يدل على أنه فهم الاستواء على معناه الظاهر الحسي الذي هو من قبيل تمكن
جسم على جسم واستقراره عليه، وإنما شك في كيفية هذا الاستقرار.
فسأل عنها، وهذاهو التشبيه بعينه الذي أشار إليه الإمام بالبدعة.اهـ
وروى الحافظ البيهقي من طريق يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن
أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى }، فكيف استوى؟ قال: فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء،
ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج.اهـ
قوله:”الاستواء غير مجهول” أي أنه معلوم وروده في القرءان، ولا
يعني أنه بمعنى الجلوس ولكن كيفية الجلوس مجهولة، كما زعم بعض
المجسمة، وقوله: “والكيف غير معقول” معناه أن الاستواء بمعنى الكيف
أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل، لكونه من صفات الخلق،
لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء أي كأليةٍ وركبةٍ، وتعالى الله
عن ذلك، فلا معنى لقول المشبهة: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة،
يقصدون بذلك أن الاستواء الجلوس لكن كيفية جلوسه غير معلومة، لأن
الجلوس كيفما كان لا يكون إلا بأعضاء، وهؤلاء يوهمون الناس أن هذا
مراد مالك رضي الله عنه. فلا يُغترّ بتمويهاتهم.
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح “الإحياء” ما نصه:
“وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله :”كيف غير معقول” أي كيف
من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله
تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله:
“والاستواء غير مجهول” أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة،
“والإيمان به” على الوجه اللائق به تعالى “واجب” لأنه من الإيمان
بالله وبكتبه” اهـ.
فنفي الكيف عن الله تعالى أي الهيئة وكل ما كان من صفات الخلق،
كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وما شابه ذلك، محل اتفاق بين
علماء أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا.
قال الإمام التـرمذي[279 هـ] في سننه: والمذهب في هذا عند أهل
العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن
عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: تروى هذه
الأحاديث ونؤمن بـها ولا يقال كيف.اهـ
وروى الحافظ البيهقي في كتابه الاعتقاد عن الوليد بن مسلم، قال:
سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث
فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيفية.اهـ ثم قال البيهقي: وتكييفه
يقتضي تشبيها له بخلقه في أوصاف الحدث.اهـ
ونقل الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات عن الأئمة الأربعة
والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وشعبة وشريك وأبي عوانة
وغيرهم، أنهم نَفَوْا عن الله تعالى الكيف.اهـ
أي ليس كما تدعي المجسمة أن السلف يثبتون لله كيفية أي هيئة لكن
غير معلومة لنا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الإمام أبو سليمان الخطابي[388هـ] في كتابه “أعلام الحديث في
شرح صحيح البخاري” ما نصه: “وليس معنى قول المسلمين: إن الله على
العرش هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته، لكنه
بائن من جميع خلقه، وإنما هو خبر جاء به التوقيف فقلنا به، ونفينا
عنه التكيف، إذ ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.اهـ
وقوله: “بائن من جميع خلقه” أي غير مشابه للخلق، لا بمعنى أنه
متباعد عن الخلق بالمسافة، وينبغي أن يُتَنَبَّه لمراد من قال من
الأئمة: إنه بائن من الأشياء، ومن قال منهم: إنه تعالى غير مباين،
فإنه ليس خلافًا حقيقيًا، بل مراد من قال: بائن، أنه لا يشبهها ولا
يماسها، ومراد من قال: ليس مباينًا، نَفْيُ المباينة الحسية
المسافية. فمن نقل كلام من قال: منهم إنه بائن، وحمله على المباينة
المسافية والمحاذاة كابن تيمية فقد باين الصواب وقَوَّلَ أئمة أهل
الحقّ ما لم يقولوه، فَحَذَارِ حَذَار ممن يحمل كلامهم على غير
محمله.
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في كتابه “أعلام الحديث في شرح
صحيح البخاري” ما نصه: فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن نعلم أنَّ
ربنا عز وجل ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي
عن الله وعن صفاته منفية.اهـ
وفي “الأسماء والصفات” للبيهقي عن أبي الحسن علي بن محمد الطبري،
وجماعة ءاخرين من أهل النظر ما نصه: والقديم سبحانه عالٍ على عرشه
لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش، يريد به مباينة
الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد، لأن المماسة والمباينة
التي هي ضدها والقيام والقعود من صفات الأجسام، والله عز وجل أحد
صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد. فلا يجوز عليه ما يجوز
على الأجسام تبارك وتعالى. [عال على عرشه علو قدر وفضل كما يتضح من
السياق، لا علو جهة ومكان.]
وحكى الأُستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال:
استوى بمعنى علا، ثم قال ولا يريد بذلك علوًا بالمسافة والتحيز
والكون في مكان متمكنًا فيه.اهـ إلى أن قال البيهقي نقلا عن بعض
أهل العلم: وجوابي هو الأول وهو أن الله مستو على عرشه وأنه فوق
الأشياء بائن منها بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها ولا يمسها ولا
يشبهها، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول
والمماسة علوًا كبيرًا. انتهى كلام البيهقي بنصه.
قال الإمام أبو المظفر الأسفرايني [471هـ] في كتابه “التبصير في
الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين” في بيان اعتقاد
أهل السنة والجماعة: «وأن تعلم أنه لا يجوز عليه الكيفية والكمية
والأينية، لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه كيف هو، ومن لا
عدد له لا يقال فيه كم هو، ومن لا أول له لا يقال له مم كان، ومن
لا مكان له لا يقال فيه أين كان، وقد ذكرنا من كتاب الله تعالى ما
يدل على التوحيد ونفي التشبيه ونفي المكان والجهة ونفي الابتداء
والأولية، وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشفى
البيان حين قيل له: أين الله؟ فقال: إن الذي أين الأين لا يقال له
أين. فقيل له: كيف الله؟ فقال: إن الذي كيف الكيف لا يقال له
كيف»اهـ.
فتبين أن مراد السلف بِلا كيفية نفي الجلوس والاستقرار والحركة
والأعضاء ونحو ذلك مما هو من صفات الأجسام. ولا يقصدون أن استواءه
على العرش وإتيانه له كيفية لا نعلمها نحن، والله يعلمها، بل
المراد نفي الكيفية عنه البتّة. وليعلم العاقل أن الجلوس كيفما كان
افتراشًا أو تربعًا أو غيرهما فهو كيفية لأنه لا يخرج عن كونه من
صفات الأجسام. وهكذا التحيز في المكان كيفيةٌ من كيفيات الأجسام،
واللون والمماسة لجسم من الأجسام كيفية فهي منفية عن الله تعالى.
وقال القاضي عياض المالكي [544هـ] في كتابه إكمال المـعلم بفوائد
مسلم: ويا ليت شعري! ما الذي جمع ءاراء كافة أهل السُّنَّة، والحقُّ
على تصويب القول بوجوب الوقوف عن التفكر في الذَّات كما أُمروا،
وسكتوا لحيرة العقل هناك وسلموا، وأطبقوا على تحريم التَّكييف
والتخييل والتَّشكيل، وأنَّ ذلك من وقوفهم وحيرتهم، غير شكٍّ في
الوجود أو جهل بالموجود، وغير قادح في التَّوحيد بل هو حقيقة
عندهم.اهـ ونقله عنه النووي [676هـ] في شرح مسلم وأقره.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي[422هـ]: “واعلم
أن الوصف له تعالى بالاستواء إتباع للنص، وتسليم للشرع، وتصديق لما
وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد
بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه،
ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى
الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسيم، وإلى قدم الأجسام، وهذا كفر عند
كافة أهل الإسلام، وقد أجمل مالك رحمه الله الجواب عن سؤال من سأله:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، كيف استوى؟ فقال:
الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا
بدعة، ثم أمر بإخراج السائل”اهـ
أقول: وهذا فيمن سأل كيف استوى فما بالكم بالذي فسره بالجلوس
والقعود والاستقرار!؟
ثم إن الإمام مالكا عالم المدينة وإمام دار الهجرة نجم العلماء
أمير المؤمنين في الحديث رضي الله عنه ينفي عن الله الجهة كسائر
أئمة الهدى، فقد ذكر الإمام العلامة قاضي قضاة الإسكندرية ناصر
الدين بن الـمُنَيّـِر المالكي [683هـ] الفقيه المفسر النحوي
الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه “المقتفى في
شرف المصطفى” لما تكلم عن الجهة وقرر نفيها، قال: ولهذا المعنى
أشار مالك رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوني على
يونس بن متى“، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنـزيه لأنه
صلى الله عليه وسلم رُفع على العرش ويونس عليه السلام هُبط إلى
قابوس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة
واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من
يونس بن متى وأفضل مكانا، ولما نـهى عن ذلك، ثم أخذ الفقيه ناصر
الدين يبين أن الفضل بالمكانة لا بالمكان” اهـ.
ونقل ذلك عنه أيضا الإمام الحافظ تقي الدين السبكي الشافعي في
كتابه “السيف الصقيل” والإمام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في
“إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين” وغيرهما.
وقد قال الإمام المحدث الورع أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة
الأندلسي[699هـ] في كتابه بهجة النفوس: وقد قال الإمام مالك رحمه
الله: كل ما يقع في القلب فالله بخلاف ذلك، لأن كل ما يقع في القلب
على ما تقدم إنما هو خلق من خلق الله، فكيف يشبه الخالق المخلوق.اهـ
وأما ما يرويه سريج بن النّعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه
كان يقول:” الله في السماء وعلمه في كل مكان”، فغير ثابت. قال
الإمام أحمد: عبد الله بن نافعالصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا
فيه. وقال أبو حاتم: ليس بالحافظ هو لين في حفظه وكتابه أصح، وقال
البخاري: يعرف حفظه وينكر وكتابه أصح، قال ابن عدي: يروي غرائب عن
مالك، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال:كان صحيح الكتاب وإذا
حدث من حفظه ربما أخطأ، وقال ابن فرحون: كان أصم أميا لا يكتب.
وراجع ترجمة سريج وابن نافع في كتب الضعفاء، وبمثل هذا السند لا
ينسب إلى مثل مالك مثل هذا. فبان مما ذكرناه أن ما تنسبه المشبهة
للإمام مالك تقول عليه بما لم يقل.
*وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء: “ءامنت
بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض
فيه كلالإمساك”. ذكره الإمام أحمد الرفاعي في “البرهان المؤيد”
والعز بن عبد السلام في “حل الرموز” والشيخ تقي الدين الحصني في “دفع
شبه من شبه وتمرد” والشيخ علوان ابن السيد عطية الحسيني الحموي في
كتابه بيان المعاني والرملي في فتاويه والنفراوي في “الفواكه
الدواني” والشيخ محمد بن سليمان الحلبي في نخبة اللآلى وغيرهم.
وقال أيضا: “ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول
الله على مراد رسول الله”.اهـ ذكره شيخنا المحدث عبد الله الهرري
في كتابه” الصراط المستقيم والشيخ الحصني في “دفع شبه من شبه وتمرد”
وغيرهما كثير، ومعناه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني
الحسية والجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.
ولما سئل عن صفات الله تعالى قال: “حرام على العقول أن تمثل الله تعالى
وعلى الأوهام أن تحد وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى
الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط إلا ما وصف به نفسه – أي
الله – على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم”.اهـ ذكره الشيخ ابن جهبل
في رسالته في نفي الجهة عن الله التي رد فيها على المجسم ابن تيمية.
وقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه أيضا جامعا جميع ما قيل في
التوحيد: “من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو
مشبه، وإن اطمأنّ إلى العدم الصرف فهو معطل، وإن اطمأن لموجود
واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد”.اهـ ذكر ذلك عنه الإمام أحمد
الرفاعي في البرهان المؤيد، والإمام بدر الدين الزركشي[794هـ] في
تشنيف المسامع، والحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي في الغيث
الهامع، وملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر، ومحمد بن أحمد بن
محمد المالكي الشهير بميارة [1072هـ]، في الدر الثمين وغيرهم.
قلت: ما أدقها من عبارة وما أوسع معناها شفى فيها صدور قوم مؤمنين،
فرضي الله عنه وجزاه عنّا وعن الإسلام خيرا وقد أخذها من قوله
تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ{ [سورة الشورى]، ومن قوله عز وجل: }فَلاَ
تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ{ [سورة النحل]. ومن قوله تعالى: }هَلْ
تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً { [سورة مريم]، ومن قوله تعالى: }أَفِي
اللّهِ شَكٌّ{ [سورة إبراهيم]. وكل هذا يدل على أن الإمام الشافعي
رضي الله عنه على تنزيه الله عما يخطر في الأذهان من معاني الجسمية وصفاتها
كالجلوس والتحيز في جهة وفي مكان والحركة والسكون ونحو ذلك.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه أيضا ما نصه: “إنه تعالى كان ولا
مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان لا
يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صفاته “اهـ.
وروى الحافظ السيوطي في الأشباه والنظائر أن الإمام الشافعي كفّر
المجسم.اهـ
وقال الشيخ الإمام أقضى القضاة نجم الدين ابن الرفعة في كتابه “كفاية
النبيه في شرح التنبيه” في قول الشيخ أبي إسحاق رضي الله عنه في
باب صفة الأئمة: “ولا تجوز الصلاة خلف كافر لأنه لا صلاة له فكيف
يقتدى به: “وهذا ينظم مَن كفرُهُ مجمعٌ عليه ومن كفَّرناهُ من أهل
القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنّه لا يعلم المعدومات قبل
وجودها ومن لم يؤمن بالقدر وكذا من يعتقد أن الله جالسٌ على العرش
كما حكاه القاضي حسين هنا عن نص الشافعي “.اهـ وذكره كذلك الشيخ
الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه “نجم المهتدي”.اهـ
وأما ما ترويه المشبهة عن الشافعي مما هو خلاف العقيدة السنية ففي
سنده أمثال العشارى وابن كادش. أما ابن كادش فهو أبو العز بن كادش
أحمد بن عبيد الله[526هـ]من أصحاب العشارى اعترف بالوضع، راجع
الميزان وحكم مثله عند أهل النقد معروف. وأما العشارى فهو أبو طالب
محمد بن علي العشارى [452هـ] مغفَّل وقد راجت عليه العقيدة
المنسوبة إلى الشافعي كذبا وكلّ ذلك باعتراف الذهبي نفسه في
الميزان وغيره، وكذلك ما ينسب للشافعي “وصية الشافعي” فهو رواية
أبي الحسن الهكاري المعروف بوضعه كما هو معروف في كتب الجرح
والتعديل، فليحذر تمويهات المجسمة فإن هذا دأبهم ذكر ما يوافق
هواهم وإن كان كذبا وباطلا.
*وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن الاستواء فقال: “استوى كما أخبر
لا كما يخطر للبشر”اهـ. ذكره الإمام أحمد الرفاعي في “البرهان
المؤيد” والعز بن عبد السلام في “حل الرموز” والشيخ الحصني في “دفع
شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل أحمد”، والشيخ علوان
ابن السيد عطية الحسيني الحموي في كتابه بيان المعاني والرملي في
فتاويه والنفراوي في “الفواكه الدواني” والشيخ محمد بن سليمان
الحلبي في نخبة اللآلى وغيرهم.
فانظر رحمك الله بتوفيقه إلى هذه العبارة ما أتقنها، فهي اعتقاد
قويم ومنهاج سليم، إذ فيها تنزيه استواء الله على العرش عما يخطر
للبشر من جلوس واستقرار ومحاذاة ونحو ذلك، أما المجسمة المشبهة
ففسروا الاستواء بما يخطر في أذهانهم من جلوس وقعود ونحو ذلك، فهذا فيه
دليل على تبرئة الإمام أحمد رضي الله عنه من المنتسبين إليه زورا
الذين يحرفون كلمة [استوى] فيقولون جلس، قعد، استقر، تعالى الله
عما يقول الظالمون علوا كبيرا كالمجسم ابن تيمية حيث صرح في “مجموع
الفتاوى” فقال: “إن محمدا رسول الله يجلسه ربه على العرش معه”اهـ وقال
فيما رءاه الإمام أبو حيان الأندلسي بخطه: “إن الله يجلس على
الكرسي وقد أخلى منه مكانا يقعد معه فيه رسول الله” اهـ كما في “النهر
الماد” إلى غير ذلك من تخريفاته وتحريفاته.
والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من أبعد الناس عن نسبة الجسم
والجهة والحد والحركة والسكون إلى الله تعالى، فقد نقل الإمام أبو
الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميميّ [410هـ] رئيس
الحنابلة ببغداد وابن رئيسها في كتابه “اعتقاد الإمام أحمد” عن
الإمام أحمد أنه قال :“وأنكر – يعني أحمد- على من يقول بالجسم،
وقال: إنَّ الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا
هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله تعالى
خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم
يجئ في الشريعة ذلك فبطل”اهـ ونقله الحافظ البيهقي عنه في “مناقب
أحمد” وغيرُه.
ونقل أبو الفضل التميميّ في كتاب “اعتقاد الإمام أحمد” عن الإمام
أنه قال: ” ولا يجوز أن يقال استوى بمماسة ولا بملاقاة، تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا، والله تعالى لم يلحقه تغير ولا تبدّل ولا تلحقه
الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش، وكان يُنكر- الإمام أحمد – على
من يقول: إنّ الله في كل مكان بذاته، لأنّ الأمكنة كلها محدودة”.اهـ
وبيـّن الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه “الباز الأشهب”
براءة أهل السنة عامة والإمام أحمد خاصة من مذهب المشبهة وقال:
“وكان أحمد لا يقول بالجهة للبارئ”. انتهى بحروفه
وقال القاضي بدر الدين بن جماعة في كتابه “إيضاح الدليل في قطع حجج
أهل التعطيل” عن الإمام أحمد: كان لا يقول بالجهة للبارئ تعالى.اهـ
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي في فتاويه: عقيدة إمام السنة أحمد بن
حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلَّبه ومأواه وأفاض
علينا وعليه من سوابغ إمتنانه وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه،
موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه
الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا من الجهة
والجسمية وغيرهما من سائر سمات النقص، بل وعن كل وَصْف ليس فيه
كمال مطلق، وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم
المجتهد من أنه قائل بشيء من الجهة أو نحوها فكذب وبُهتان وافتراء
عليه، فلعن الله من نسب ذلك إليه، أو رماه بشيء من هذه المثالب
التي برَّأه الله منها، وقد بيّـن الحافظ الحجة القدوة الإمام أبو
الفرج بن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئّيـن من هذه الوصمة القبيحة
الشنيعة، أنَّ كل ما نسب إليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان وأن
نصوصه صريحة في بطلان ذلك، وتنزيه الله تعالى عنه فاعلم ذلك فإنه
مهم .وإياك أنْ تصغى إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم
الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على
سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، وكيف
تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود، وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة
والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك، بل هم على
أسوأ الضلال وأقبح الخصال وأبلغ الـمَقتْ والخسران وأنهى الكذب
والبهتان فخذل الله متَّبِعهم وطهر الأرض من أمثالهم.اهـ
وقال الشيخ محمد بن علاّن الصدّيقي [1057هـ] في الفتوحات الربّانية
على الأذكار النووية ما نصّه: وأنّه تعالى منزّه عن الجهة والمكان
والجسم وسائر أوصاف الحدوث، وهذا معتقد أهل الحقّ ومنهم الإمام
أحمد، وما نسبه إليه بعضهم من القول بالجهة أو نحوها كذب صراح عليه
وعلى أصحابه المتقدمين كما أفاده ابن الجوزي من أكابر الحنابلة،
وما وقع في كلام بعض المحدّثين والفقهاء ممّا يوهم الجهة أو
التجسيم أوّله العلماء، وقالوا: إنّ ظاهره غير مراد، فعليك بحفظ
هذا الاعتقاد، واحذر زيغ المجسّمة والجهمية أرباب الفساد.اهـ
وقال الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري فيما نُسب إلى الإمام
أبي الحسن الأشعري: ابن شاهين يقول: رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء،
جعفر بن محمد، وأحمد بن حنبل.اهـ
وقال القاضي إسماعيل بن إبراهيم الشيباني [629هـ] في كتابه البيان:
وقالت الحنابلة (أي غلاتهم): إن الحروف المكتوبة والأصوات المنطوقة
قديمة وهي كلام الله، وأحمد رضي الله عنه بريء من ذلك.اهـ
وقال ابن الحفيد التفتازاني [906هـ] في الدرّ النّضيد: المفهوم مِنْ
تاريخ الإمام اليافعي في ذكر مشايخ سنة ثمان وخمسين وخمسمائة أن
الإمام الزاهد أحمد بن حنبل قُدّس سرّه، لم يقل بأنّ كلامه تعالى
صوت وحرف، وأنه تعالى في جهة، فكأنّ الحنابلة القائلين بأنّ كلامه
قديم مِنْ جنس الأصوات، قوم آخرون لا مُتّبعوه.اهـ
هذا وقد نقل الإمام الحافظ العراقي والإمام القرافي والشيخ ابن حجر
الهيتمي وملا علي القاري ومحمد زاهد الكوثري وغيرهم عن الأئمة
الأربعة هداة الأمة الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم
القول بتكفير القائلين بالجهة والتجسيم.اهـ
بل وقال الإمام بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع: «ونقل صاحب
الخصال من الحنابلة عن أحمد أنه قال: من قال: جسم لا كالأجسام كفر،
ونقل عن الأشعرية أنه يفسق، وهذا النقل عن الأشعرية ليس بصحيح»اهـ.
وروى الحافظ البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم عن أبي عمرو بن
السماك عن حنبل عن أحمد بن حنبل تأول قول الله: }وَجَاء رَبُّكَ {[سورة الفجر]
أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي: “وهذا إسناد لا غبار عليه”. نقل
ذلك ابن كثير في تاريخه وأقره.
وقال الحافظ البيهقيّ أيضا في “مناقب أحمد”: “أنبأنا الحاكم قال
حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت عمي
أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول: “احتجوا علي يومئذ – يعني يوم
نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا: تجيء سورة البقرة يوم
القيامة وتجيء سورة تبارك، فقلت لهم: إنما هو الثواب،قال الله
تعالى: }وَجَاء رَبُّكَ{ [سورة الفجر] إنما يأتي قدرته، وإنما
القرءان أمثال ومواعظ.اهـ
قال الحافظ البيهقي: وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء
الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان
إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات
قدرته، فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات
ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما
يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياه
بمجيئه، وهذا الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا
الحذاق من أهل العلم المنزهون عن التشبيه” اهـ.
وقال الإمام المحدث الشيخ عبد الله الهرري في كتابه المقالات
السنية: “وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل
ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أنَّ الله متحيّـز في مكان
أو أنّ له حركةً وسكونًا وانتقالا من علو إلى سفل على ظواهرها كما
يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبون اعتقادا التحيز لله في المكان
والجسمية ويقولون لفظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنـهم
منزهون لله عن مشابهة المخلوق فتارة يقولون: بلا كيف، كما قالت
الأئمة، وتارة يقولون: على ما يليق بالله، نقول: لو كان الإمام
أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على
ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو وسفل كمجيء الملائكة،
وما فاه بهذا التأويل”.انتهى بحروفه .
وقال الحافظ الكبير أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في دفع شبه
التشبيه: وكذلك قوله تعالى: }وَجَاء رَبُّكَ {، ذكر القاضي أبو
يعلى عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: في قوله تعالى: }أَن
يَأْتِيَهُمُ اللّهُ{ [سورة البقرة] ، قال: المراد به: قدرته وأمره،
قال: وقد بينه في قوله تعالى: } أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ {،
ومثل هذا في التوراة، }وَجَاء رَبُّكَ {، قال: إنما هو قدرته.اهـ
وقال: والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة وأن
النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام:
جسم عالي وهو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل
وهذا لا يجوز على الله عز وجل. اهـ ثم قال: ومنهم من قال يتحرك إذا
نزل، وما يدري أن الحركة لا تجوز على الله تعالى، وقد حكوا عن
الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه. اهـ
وقال الشيخ تقي الدين الحصني في دفع شبه من شبه وتمرد: وحكوا هذه
المقالة عن الإمام أحمد فجورا منهم بل هو كذب محض على هذا السيد
الجليل السلفي المنـزه.اهـ
وقال الفخر الرازي في أساس التقديس: نقل الشيخ الغزالي رحمه الله
عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنّه أقرّ بالتأويل في ثلاثة أحاديث.اهـ
ثم قال الرازي: رُوي عنه عليه السلام أنّه تأتي سورة البقرة وآل
عمران كذا وكذا يوم القيامة كأنّهما غمامتان. فأجاب أحمد بن حنبل
رحمه الله، وقال: يعني ثواب قارئهما، وهذا تصريح منه بالتأويل.اهـ
وذكر الإمام بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي في كتابه البرهان
في علوم القرآن: وممّن نُقل عنه التأويل عليّ وابن مسعود وابن عباس
وغيرهم. وقال الغزالي في كتاب “التفرقة بين الإسلام والزندقة”:
“إنّ الإمام أحمد أوّل في ثلاثة مواضع”. وأنكر ذلك عليه بعض
المتأخرين، قلت: وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد
في قوله تعالى: } أَوْ يَأْتِيَ رَبِّكَ {، قال: وهل هو إلاّ أمره،
بدليل قوله } أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ { اهـ
فائدة قاصمة: إلى هؤلاء المجسمة أقول:
قال ابن حمدان الحنبلي[695هـ] في كتابه نهاية المبتدئين في أصول
الدين: “وأن الله تعالى ليس بجوهر ولا عرَض ولا جسم ولا تـحله
الحوادث ولا يـحل في حادث ولا ينحصر فيه”. إلى أن قال:” هو الغني
عن كل شىء، ولا يستغني عنه شىء، وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء،
ومن شبَّهه بخلقه فقد كفر، نص عليه أحمد، وكذا من جسَّم، أو قال:
إنه جسم لا كالأجسام، ذكره القاضي”.اهـ ثم قال: ومن قال إنه بذاته
في كل مكان أو في مكان فكافر”.اهـ
وقال: وقال التميمي في اعتقاد أحمد في حديث النـزول: “ولا يجوز
عليه الانتقال، ولا الحلول في الأمكنة، قال فيه ابن البناء في
اعتقاد أحمد: ولا يقال بحركة ولا انتقال”اهـ
وقال: واختار ابن الجوزي نفي الجهة، وحكاه عن أحمد من رواية حنبل،
وإليه ميل ابن عقيل.اهـ
وقال: “وقد تأول أحمد آيات وأحاديث كآية النجوى وقوله:} أَن
يَأْتِيَهُمُ اللّهُ{ وقال: قدرته وأمره. وقوله: } وَجَاء رَبُّكَ {، قال:
قدرته. ذكرهما ابن الجوزي في “المنهاج” واختار هو إمرار الآيات كما
جاءت من غير تفسير وتأول ابن عقيل كثيرا من الآي والأخبار. وتأول
أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم : “ الحجر الأسود يمين الله في
الارض ” ونحوه.اهـ
وقال مرعي الكَرْمي المقدسي الحنبلي[1033هـ] في أقاويل الثقات في
تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات: قال المازري:
وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث (حديث فإن الله خلق ءادم على
صورته) فأجراه على ظاهره وقال: الله صورة لا كالصور. قال: وهذا
كقول المجسمة: جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة يقولون: الله
تعالى شيء لا كالأشياء. والفرق أن لفظة شيء لا تفيد الحدوث ولا
تتضمن ما يقتضيه، وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك
دليل الحدوث.اهـ